قـصـة قـصيـرة جــدا : حُــــبٌّ كــالـعــطــر

بإبتسامة فارهةٍ ومنبجِسَة،تكادُ لا تُفارق مُحياها البشوش، رحبتِ فتاةُ رواق العطور بزبونيها الشابين، يونس وليلى كانا في مقتبل العمر، كأنهما عاشقين خرجا للتو من صفحات قصص الغرام، قالت لهما : مرحبا، أنا في خدمتكما متى رغبتما في ذلك، إستبشر الشاب بعدما إستثمر باقةَ مجاملةِ فتاة الرواق الغير المُتوقعة، قال بهدوء قوي، لخطيبته مُنتشيا : يمكنكِ ليلى عزيزتي، انتقاء ما تشائين من العطور، فالعطور غذاء الروح، ورسائل نبضات القلوب الوالهة .

بألمعيتها المُتقدة، ونظراتها المحترفة ، إلتقطت فتاة الرواق، رغبة يونس في التجاوب مع ليلى، في تلبية مُرادها، إقتربتْ في خُطى قصيرة ومُتئدة من خطيبة الشاب، وهي تراقص أناملها، قائلة : “شيء جذاب، ومثير، أن يطلب شاب من حسناء متألقة في عينيه، أن تنتقي الهدايا التي تنال رضاها، وتحديدا إذا كانت الهدايا عطورا، فذاكــ منتهى التقدير وقمة الإعجاب، المفعم بالألفة و الإحترام”.

إرتسمت إبتسامة طفيفة على ملامح ليلى، قالت فتاة الرواق: “المرأة منا نحن بنات حواء، تعشق ذلكـ … طأطأت ليلى رأسها للحظة، بعد أن إقتحَمتها نَوباتٌ من الحياء المُباغث، إحمَرَّت وجنتَيْها له،وكست أرنبة أنفها الجميل حمرة ورود الحدائق اليانعة، بدت مشدوهةً بأريحية خطيبها يونس، بكرمه الدافق ولياقته الرجولية، تحسست حقيبة يدها، أخرجت منديلا ورقيا ورديا، في وَجَلٍ، وأناةٍ، مسحت قطرات العرق الخفيفة، لامست مقدمة أنفها ، مررته على شفتيها، ثم غمرتها جحافل من السكينة و الإطمئنان، دفعتها لتؤجل شكوكها الطارئة، وسيول ظنونها، التي تهاجمها كلما دخلت إمرأة أخرى على الخط مع خطيبها يونس، فَطِنت أن لعبةَ الغيرة تظلُ عابرةً في مثل هذه المواقف ، ثم سرعان ما تتبخر مثل ندى الصُبحيات المتساقط على الأزاهير والأشجار…

ناولتها فتاة الرواق، مطويا من الورق المقوى والمُعـطر، بكل أسماء العطور، هذه عطور صيفية وتلكـ الأخرى على الرف البلوري ربيعية، عطور النساء وأخرى للرجال، وهناكـ بخاخات العرق، ومناديل الأريج، كانت قوارير العطر على الرفوف البلورية بالرواق تتألق مع تموجات الأضواء الملونة، فتزيدها عجائبية وغرابة، مُبهرةٌ هي العطورُ حتى قبل إستنشاق عبقها.

إنتاب ليلى إرتباك خجول، إقتربت من يونس، كأنها تطلب حماية مُستعجلةً من هذا الوضع المُفاجئ، عاودها عرقٌ شفيف خفيفٌ على جبينها، بدى مثل قطرات أمطار أبريل المباغثة والرقيقة، إكتشفت أن العطورَ ثقافةٌ ورسائلَ، عوالمٌ تجمع الحواس مع الأحلام، وتوحد الأفكار مع الأرواح، وبها تتحول الأذواق إلى قصائدَ شاردة، وسمفونيات.

نظرت ليلى إلى خطيبها، الذي جلس على أريكة بنفسجية في الرواق، يصيخ لسمع موسيقى هادئة كانت تحتل كل جنبات المكان، فتزيده تألقا وفرادة، كأنه إستشعرَ أن الحديث بينهما، أجمل وأفصح وأصدق، فالنساء تعرف النساء … أومأت ليلى له بإشارة متوارية، فهم أنها ترغب في عودته إلى جانبها، طبيعي، فهي إمرأة كجميع النساء ، تزدان أولا بكبريائها، وبفارسها.

غادر يونس وليلى تحت نظرات فتاة الرواق في إشَاراتٍ مُختلطة من الإعجاب و الإندهاش، يحملان كيسين من باقة عطور تفوح بالشذى وبالرغبات، في الطريق ظلت ليلى صامتة، لم تنبس ببنت شفة واحدة، تشابكت ذراعيهما، وهو يحدثها بخصوصيات وصيت الرواق المميز، إستشعر أن بالها مشوش وذهنها مشغول، وأن تساؤلات تتقاذفها، تضطرم في قرارة نفسها، إستوقفها تحت شجرة زيزفون ظليلة عند زاوية شارع منعرج، عانقها، قبل جبينها بلطف، وقال : “لا تتركي ليلى حبيبتي الغيرة التي أراها في عينيكـ الآن، تقتحمُ عالمنا، لاتتركيها تؤرقُ جمال حُبنا، تغتال عفويته وتسرق فطرته”.

بَرَقَ وميضٌ فاتنٌ من عينَيها، ثم إندفعت دمعتان دافئتان تفضحان صمتها العاشق، أسندت خدها على صدره، داعب بحنو خصلات من شعرها البني، مُنسدلة على كتفها الأيسر، أحس بدفء أنفاسها  تحاصرهُ، تغزو كل جوارحه، قال : “يُفترض منا أن لا نفسدَ رونقَ حياتنا، علينا أن نعيشَها بكل جوارحنا ونبضات قلوبنا”، رفعت رأسها نحوه، تملت وجهَهُ، إرتعشت شفتَيْها، أشرقت عيناها بإبتسامة بارقة، همس حينها يونس في أذنها “تأكدي حبيبتي، أن الحبَّ كالعطر سَيَّان لايختبئان” .

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.