العصفور المحترم عند عموم البهجاويين

‏”طيـبيــبـــط”المراكشــيــة ‏

‏ ‏

: مــــــحـــمد القـــنـــور :

عدسة: محــمــد أيت يحي:

 

لاشكـ أن طيور “طيبيبط” ، تظل العصافيرُ الأكثر شُهرة في مدينة مراكش،رغم بساطة ريشها الأحادي الألوان، ‏والبعيد عن تلكــ الأبهة الريشية التي تتمتع بها العصافير الأخرى، وتحظى “طيبيبط” بموقع أصيل في المخيلة ‏الجماعية للساكنة ليس فقط لكون المدينة الحمراء إرتبطت به ، وأعطته شيئا من سحرها وغرابتها الدافقة ولونها ‏الندي وقدسيتها الصوفية، ولكن لأن طيبيبط عصفور، ، يتمتعُ بسِجِّلِ “عدلي” خالٍ من أية سوابق في التدمير أو ‏السطو على الممتلكات ، كما تفعل عادة الغِربان، وطيور الزرزور، والنوارس وطائر الحدأة والبواشق ، والصقور، ‏مما يمكن طيور “طيبيبط” هذه العصافير الدورية من فصيلة الشحروريات، من أسمى دواعي التقدير والاحترام . ‏
وطبيعيٌّ، أن تقدم طيور “طيبيبط” صورتها ،مثل طائر أسطوري، يخفق بأجنحته بين الشرفات وعلى النوافذ، ‏وسياجات المنازل العتيقة،والأسوار المرتفعة، وعلى أغصان شجيرات الرياضات التليدة في مدينة البهجة، ومن ‏مراتع أقدام الأطلس الخالد، مرورا بمنطقة الدير في تازارت وزمران ، وصولا إلى مراتع حوض تانسيفت ‏وأراضي الرحامنة و ضفاف نهر أم الربيع. ‏

يرتبط “طائر طيبيبط” بالذاكرة الجماعية التقليدية لساكنة مدينة مراكش، حيث يكاد لا يخلو منزل أو رياض أو قباب ‏أو برج أو مزار من أعشاشها تماما كما “الخطاطيف” وطيور “الأبابيل”، التي تتقاسم معها فضاءات وأجواء مدينة ‏سبعة رجال، بكل أبراجها وشوارعها وحدائقها ومنشآتها الحديثة وأحيائها العصرية وحاراتها التي ما زالت تحتفظ ‏رغم مرور مئات السنين بطابعها التقليدي القديم، ففي مراكش يُشاع أن كل خطوة على أرضها، تقفُ بزائرها أو ‏السائح في مناكبها على عتبة ضريح قطب صوفي أو مزار مفكر إسلامي، أو سيدة صالحة من نساء الصلاح والبناء ‏والتقوى.‏
وقد كان الشرقاوي “مول الحمام” يرحمه الله، أشهر “مجاديب” ساحة جامع الفنا في مراكش، يدمج “طيور طيبيبط” ‏طيلة عقود بسردياته وأقاصيصه المروية على لسان الحال،في زمرة الصالحين ، ومما يُذكرُ ، فقد رحل الشرقاوي ‏وصديقه “بلفايدة” عن عالمنا مؤخرا في صمت، كما كان قد قدم إليه في صمت، وحتى من دون أن يلتفتَ إليه أحد ‏آنذاكـ ، بدءا من الوزارة الوصية على التراث الشعبي إلى شيوخ الحلقة…. ‏
وإذ كان الراحل الشرقاوي الشهير بــ “مول الحمام”، ينسب دائما الطيور والحيوانات إلى أماكن مغربية، في ‏فسيفساء إثنية جميلة،كأنها الإلياذة ، تترجم زخم الموروث الشعبي المغربي وتنوعاته،حيث كان ينسب الغراب إلى ‏منطقة الحوز، واللقاليق “بلارج” إلى دُكالة، و”لحدية” إلى السراغنة، و”عوا” طائر النورس إلى مدينة الصويرة، ‏فإن طيبيبط كان يصنفها دوما بكونها فقيرة “درويشة”،قنوعة لا تحركـ ساكنا، ولا تثير جعجعة ولا قعقعة ، فكأنها ‏طائر أممي ، تتمتع بجواز ثقافي عابر للقارات وللحكايات والأفكار والأحلام ..وهذا ما يجسد ما تتمتع به هذا “طيور ‏طيبيبط” من وجاهة ونجومية، حتى أن الحكايات المتواترة تردد أن كل من يعترض أو يلحق الأذى ‏بعصافير”طيبيبط” يصاب بالعمى، أو تصاب عينيه بالرَّمد، فيكون مصيره “سبيطار لخميس” المتخصص في ‏أمراض العيون والأنف والحنجرة، والقابع تحت تذكرة وذكرى داوود الأنطاكي يرحمه الله .‏


في حين يؤكد مهتمون وعلماء إحيائيون وطنيون ومحليون أن العصافير الدُورِية وعلى رأس قائمتها طيور ‏‏”طيبيبط” تشكل منظراً مألوفاً حول القرى والحدائق والمنازل والمداشر في حوض تانسيفت،بسبب الطبيعة المناخية ‏للمنطقة، وملاءمة المجال الإحيائي لتكاثرها وعيشها، وإذ تنتشر تقريبا في كافة أرجاء الجهة، ولكن بنسب متفاوتة ‏حيث ستطيع طيور “طيبيبط” العيش في المناطق المأهولة بالسكان بسهولة، وتندر في الأماكن المرتفعة على غرار ‏مناطق أوريكا وأوكايمدن وإمليل وأمزميز وإيجوكاك،وما جاورها، بينما يُسجل تواجده في مدينة مراكش غالبا في ‏الدور القديمة والبنايات العتيقة، حيث تصدر عنه أصوات كثيرة ومتقطعة عبارة عن نبرة واحدة، تلخص إسمه لدى ‏المراكشيين،”طيبيبط” ونظراً لقدرتها على التأقلم مع الظروف الطبيعية المتفاوتة والمتنوعة لجهة مراكش، والتي ‏تعرف حرارة مفرطة في الصيف وبرودة صقيعية في الشتاء.‏
وبعيدا عن الأدب الشعبي والحكايات المتواثرة، فالحقيقة ، أن عصافير “طيبيبط” بدأت في الانتشار ببطء عبر ‏مختلف الأزمنة الإيكولوجية والمناخية في مختلف المناطق الجنوبية والشمالية من الوطن، فهي في مدينة شيشاوة ‏وكلميم كما في طنجة، والصويرة ، لدرجة أنها قد تنافس طيور النورس في حضورها بمدينة الرياح، إذ يمكن ‏بسهولة رؤية أعشاشها التلقائية ، والتي تشبه كرة مشتتة الأطراف من الأعشاب والقش، بارزة خلف أغطية المكيفات ‏وفي ثقوب الأسوار والأطلال وعلى الحيطان الضخمة وزوايا المنازل والرياضات وفناءات القباب وأعالي الجوامع، ‏وعلى الأشجار المتوسطة الإرتفاع في معظم القرى، والمنتشرة بمحيط مدينة الرجال السبعة . ‏
وخلافا للحكايات الشعبية، والمتعارف عليها لدى أغلب ساكنة حوض تانسيفت، وأولاد الرحامنة وقبائل ‏مسفيوة،وغجدامة وتكنة ومصمودة وكلاوة، وما إليها في كون “طيبيبط” مراكشية أصلا وفصلا، فإن معظم العلماء ‏المختصين في الطيور يعودون بأصول “طيبيبط” إلى جزر الكناري وماديرا .‏
وتتربع عصافير “طيبيبط” بكل إحترام في المخيلة الشعبية، وفي الأمثال الشعبية، المليئة بالتصريح حينا وبالتلميح ‏حينا، كما تتبوء مواضيع الرغبات والوساوس والأساطير و المعاني وفي عتمة العمل اليومي المسترسل والشاق، ‏الذي يسرق بهجة التأمل وجمال السكينة، ويُغمس المرء في المتاعب النهارية التي لا تنتهي ، وفي شجيرات الدفلى ‏ومآسي البؤس وفي الأحلام والورود،وفي آثار النعمة والأضواء وفي الدخان وفي العتمة، لتأتي مثل الفرص ‏الجميلة التي تمر علينا دون أن يستوقفها أحد ،لأن هذه الفرص الثمينة عادة ما تندس داخل ملابس بالية، ولكن أكثر ‏الناس يميلون للمظاهر الخلابة .‏

وتتقاسم عصافير “طيبيبط” سمة هجوماتها المباغتة والناعمة وإحترافية حِصاراتها للأمكنة مع جنرالات الحروب ‏القصيرة، و الفهود وضِخام الفِيَــلة ، وعناصر الشرطة القضائية المحترفين ، والنمور المتربصة في براري ‏الأحراش ، والإعلاميين من رواد التحقيقات الصحافية، وجماعات الغجر، ومصوري “البابارادزي” ومغامري ‏رجال ونساء الأعمال داخل “بورصة القيم” والفأرين “ميكي” وإبن جنسه “دجيري” في أعمال الكبير”والت ‏ديزني”، وكلاب الرعاة والقطط الفضولية، والرجل الشكاكـ في زوجته الجميلة، وباعة العقاقير الطبية ومرهمات ‏الجلد داخل حافلات السفر بالمحطات الطرقية. ‏
كما تخترق عصافير”طيبيبط” الأبواب ومتاجر بيع الحبوب ومخازن البيادر والغرف والسكينة الصباحية بأجنحتها ‏الخافقة وبأغروداتها المحتشمة مرة، والمندفعة مرات أخرى، كأنها تصريحات بريئة وهارمونية تضع بشارات قدوم ‏مُرتقب لأشعة شمس يوم جديد .‏

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.