في غرب سور مراكش المدينة العريقة، تمتد جليز المنطقة السكنية والخدماتية والإستجمامية كأنها لوحة مرسومة بعناية، تتداخل فيها ألوان الحياة اليومية، من أبهة المتاجر الفاخرة، والدكاكين المتراصة إلى صخب المقاهي، وهدوء المطاعم، وغرائبية الحانات وضجيج العلب الليلية، ومن واجهات المكتبات وأريج المحلات، إلى أنوار الأروقة، وعبر دوران عقارب الساعة، تتمططُ المنطقة من فتراتها الصباحية الصامتة إلى جموح لياليها المتحركة، وتتمدد سكينة الأزقة المتفرعة عن شوارعها الرئيسية عند الغروب، كأنها تداعب تحف البازارات، وخزائن الأبناك وعنفوانية الفنادق المصنفة، وصالات عرض اللوحات الفنية والسلع النفيسة.
ففي منطقة جليز، تبدو الفيلات المعانقة لأرصفة الشوارع، والبيوت المتراصة، على مسارات نقر ماسحي الأحذية، وشرفات الشقق المتعالية، وكأنها تروي حكايات ساكنيها، وروادها من الزوار المغاربة والسياح الأجانب، بنوافذها المفتوحة على عوالم الذكريات ومنصات الأحلام، وخطوط غير متناهية من الأحلام والأمنيات.
في حين، تمتزج على الأرصفة، وخطوات المارة برائحة الخبز الطازج القادم، والفطائر الممزوجة بالشوكولاطه، التي تنبعث من المخابز الصغيرة المنزوية هنا وهناك، بينما تتهادى أشجار النارنج وبعض النخيل الباسق على جانبي الطرقات، كأنها تحرس الأسرار العتيقة للحي خصوصا، وللمدينة الحمراء عموما.
وفي المساء، تنعكس أضواء المصابيح على الجدران المطلية بلون الشفق المراكشي الهادئ، لتخلق ظلالًا رقيقة تحمل بين طياتها أصوات الضحكات القادمة من أعماق الحانات وقفشات المقاهي المفتوحة على الحياة.
إنها منطقة جليز في مراكش، المنطقة التي لا تنام، ولكنها تعرف كيف تهدهد زوارها وساكنيها على حد سواء، لتمنحهم ذلك الإحساس بالانتماء لمراكش، حتى وإن كان زائرها لم يكمل فيها إلا أربعة وعشرين ساعة.
إذ بذلك الدفء تستطيع منطقة جليز من خلال تنوع وجمالية مراكش، أن تجعل من كل زاوية فيها قطعة من الذاكرة الحية.
وللإشارة، فقد إنطلق البناء بمنطقة جليز في مراكش يوم 5 يونيو 1913، حسب مختلف المصادر التاريخية ووثائق الأرشيف المتعلقة بالحي، وجاء الشروع في عملية تهيئة بعد مزاد علني في نفس اليوم المذكور، حيث بيعت 107 بقعة معدة للسكن كدفعة أولى .
هذا، وتراوح ثمن المتر الواحد ما بين 0.50 و 1 فرنك، وفي الحقيقة كان ثمنا لم يكن في متناول الجميع ، وكان عدد بقع الدفعة الثانية 77 ، في حين بلغت الدفعة الثالثة 90 بقعة .
وقد صدر قرار بلدي باجبارية انتهاء الأشغال بالمنطقة قبل فاتح أكتوبر 1918، كما صدر قرار بمنع اقتلاع النخل، وعند الضرورة القصوى يحرر المعني طلبا مرفوقا بالتزام يجبره بغرس 3 نخلات في مكان اخر مع مع إلتزامه كتابة برعايتها إلى غاية نموها .
وفي سنة 1919 تم احصاء ساكنة جليز فكان عددهم 817 فرد ، 561 فرنسي و 19 اسباني و 39 ايطالي و 69 عربي و 24 يوناني و4 بلجيكيين و2 سويسري و 1 روماني، و 98 مغربي يهودي ومسلم . وحسب أحد الاحصائيات المنجزة سنة 1930 فقد بلغ عدد سكان جليز حوالي 1500 شخص، ثم تضاعف هذا الرقم مرات بعد قدوم أعداد مهمة من الوافدين من الجهات الأربع للمعمور، خصوصا من الفرنسيين والاسبان ، الذين أقاموا بدرب سبنيول، المتواجد في جليز بمراكش.
إلى ذلكــ ، كان بمنطقة جليز في سنة 1919 مجموعة من المرافق ، فندقان ـ 4 مطاعم ـ 12 مقهى ـ 4 مطبعات ووراقات، ومصحة و6 جزارين و 3 مخابز و 2 سينما و 5 محلات لبيع المواد الغدائية، و3 نجارين، و 1 حلاق ، و1 كهربائي و2 خياطين و 2 ميكانيكي، …. خلافا لما يتواجد فيه الآن العدد الأكبر من الأبناك و الإدارات والمصالح الجهوية للحكومة والفنادق والمتاجر والعيادات …
ولقد حملت هذه المنطقة الحضرية الشاسعة و الأخاذة اسمها من جبل جليز الملاصق للحي، والكلمة تعني بالأمازبغية، الصخرة” اكلز” ، بينما تؤكد جهات أخرى، أن جليز، هو تحريف لغوي لكلمة أجليز وتعني الخنفساء الصغيرة الحمراء، coccinelle حيث كان هذا الجبل مجالا خصبا لتكاثر هذه الخنافس، ومصدرا هاما للصخور التي احتاجها البناؤون آنذاك ، ممن كان جلهم من الجيش الفرنسي، وجنود المستعمرات الفرنسية الأخرى .
وفي سنة 1913 وبعد سنة واحدة من احتلال المغرب، وبأمر من الماريشال ليوطي قام القبطان لاندي landais بوضع تصميم مميز لمنطقة جليز، ومعظم أحياءها على غرار الحي الشتوي، والحي العسكري، وحي كاستور، وحي الحارثي وغيرها، فوضع فيه مجموعة من الشوارع الرئيسية والمتقاطعة فيما بينها، يفوق عرضها 60 متر .ثم عزز الحي بساحات وحدائق فسيحة لا زالت ربما هي الأوسع حتى الأن على صعيد مراكش .
ومعلوم، أن القبطان لاندي كان مهندسا، ورئيسا لمصلحة الأشغال البلدية بمراكش، حتى أن شارع محمد الزرقطوني، كان يحمل إسمه .
ومن خلال منطقة جليز، وفي عهد الحماية الفرنسية، شهدت مدينة مراكش تحديثًا واسعًا شمل البنية التحتية، والتخطيط العمراني، والخدمات العامة.
كما ركزت الإدارة الفرنسية على تطوير شبكات المياه والصرف الصحي في منطقة جليز، حيث تم إصدار مراسيم لتنظيم توزيع المياه في الحي وبعموم المدينة وأحوازها، كما تم تحسين الظروف الصحية في المناطق الجبلية المحيطة بمراكش، حيث اتخذ المستعمرون إجراءات علاجية ووقائية لمكافحة الأمراض المرتبطة بتلوث المياه.