ثمود، حضارةٌ إعْتَدَت ثم بَادَتْ ‏

حكاية المدينة التي مر عليها الرسول”ص” فغطى رأسه بردائه

 

محمد الـقـنــور : ‏

 

ثمود هي ليست مجرد قصة لمدينة وشعب كانا ولم يَعُدا، هي في الواقع حكاية حضارة سادت ثم بادت ، إنقرض سكانها، ولكن بقيت معالمها شاهدة ، وقائمة تحيط بها مئات الألغاز والأسرار ، وتنصبُّ حولها العشرات من التحليلات التاريخية والتنقيبات العلمية ، التي تحاول جاهدة تقصي ماضي هذا الشعب وكيفيات عيشه ، ومعالم هذه الحضارة من خلال ما خلفته من  قصور وقلاع، من منازل وطرقات ، من أبار وحظائر مواشي ، من أسوار وأسرار، من نمط عيش لاتزال  تشهد عليه الحفريات المرتبطة بها، ،كدلائل تترجم هول ما تعرضوا له ‏من كارثة عقابية إلهية ، تؤكدها كل الكتب السماوية، وتكشف صدقها  الدراسات الحفرية العلمية .

إنها قصة شعب ثمود الذي أسس مدائن صالح والتي  تعرف حاليا بمدينة الحِجْر، على مستوى تراب المملكة العربية السعودية هي موقع أثري يقع في شمال غرب المملكة العربية ‏السعودية وتحديداً في محافظة العُلا التابعة لمنطقة المدينة المنورة.

تحتل مدينة المدائن أو مدائن الحجر، أو ثمود  موقعاً إستراتيجياً على الطريق الذي ‏يربط جنوب شبه الجزيرة العربية بالعراق بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر، مما يعني أن شعب ثمود كان شعبا قويا على المستوى الحضاري والثقافي، كما حظي بشهرة تاريخية استمدّها من موقعه على طريق التجارة القديم الذي يربط جنوب شبه الجزيرة العربية ‏بالشام من جهة، وبمصر وبلاد الحبشة واليمن من جهة ثانية  .
فمدينة الحجر هو الاسم الذي لايزال يطلق على ديار شعب ثمود بوادي القرى بين المدينة المنورة ومدينة تبوك في المملكة العربية السعودية حاليا.

وقد ورد ذكر الحجر ‏في القرآن على أنها موطن قوم ثمود، الذين لم يستجيبوا  لدعوة نبي الله صالح عليه السلام ،وكان صالحا نبيا عربيا قبل الرسول ‏الأعظم بمئات السنين، ثم  وقتلوا الناقة التي أرسلها الله لهم آية فأهلكهم تعالى بالصيحة.‏
والآن، تعد مدائن صالح من أهم حواضر الأنباط بعد عاصمتهم البتراء،على أساس أن شعب ثمود هو شعب نبطي، إذ ‏تحتوي على أكبر مستوطنة جنوبية لمملكة الأنباط بعد البتراء في الأردن، والتي تفصلها عنها مسافة 500 كم، ويعود ‏أبرز أدوارها الحضارية إلى القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، وذلك خلال فترة ازدهار الدولة النبطية وقبل ‏سقوطها على يد الإمبراطورية الرومانية عام 106م، ويُعتقد أن مدينة الحِجْر استمرت في حضارتها حتى القرن الرابع ‏الميلادي، وكانت عاصمة مملكة لحيان في شمال شبه الجزيرة العربية.‏

وتضم آثار مدائن صالح 153 واجهة صخرية عملاقة منحوتة، كما تضم عدداً من الآثار الحديثة الإسلامية والتي تتمثل في ‏عدد من القلاع وبقايا خط سكة حديد الحجاز والتي تمتد لمسافة 13 كليومتر، وبقايا المحطة والقاطرات. لدرجة أنه في سنة 2008 تم تسجيل الموقع ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، ليصبح بذلك أول موقع يتم تسجيله في العربية السعودية. كما يوجد ‏موقع أثري آخر يعرف بمدائن شعيب وهي “مدين” الوارد  ، نسبة إلى النبي شعيب عليه السلام ، وهو بدوره نبيا عربيا ورد ذكره في القرآن ‏الكريم ،أرسله الله إلى شعب مدين الوارد ذكرهم في القرآن الكريم وفي الكتب القديمة ، تحت إشارة “أصحاب الأيكة” وتقع مدين شمال غرب مدائن ‏صالح بمنطقة  تبوكـ ، حيث لاتزال تحتوي  على مواقع أثرية تشبه تلك الآثار المتواجدة بمدينة البتراء في بادية الأردن .

 

وكان  الباحث التاريخي بريدجر فيلبي Bridgger Philippy، قد تطرق في مقال كتبه قبل سبعين سنة ، في المجلة التاريخية الإمريكية ‏، إلى مكونات موقع ثمود الأثرية أثر زيارة له قام بها عام 1951م .‏
بعد زيارة له لموقع مدينة ثمود ، ولم يكتف بالحديث عنه ‏حسب المرويات كما فعل معظم الرحالة من قبله ، ممن ذكروا وكتبوا عنه إستنادا إلى الروايات الشفاهية التي ظل يتناقلها الأعراب بجزيرة العرب .

ولكن  فيلبي زار موقع “حضارة ثمود” البائدة ، سيراً على الأقدام. فتحدث عن غرابته، وعن تضاريسه الصخرية الناتئة من الرمال، فذكر معالمه الآثرية ووصف خصوصياته المعمارية ، و وصف ‏الحقول الزراعية، والقنوات، والسواقي، والسدود، والحواجز، والسواتر المائية. وأشار إلى مغارتين خارج سور المدينة ‏في السلسلة الجبلية فوصفهما وصفاً مفصلاً، وأفاض في وصف كل  هذه المظاهر المعمارية من  الدوائر الحجرية ‏الضخمة، والرجوم، والمقبرات والطرقات، إلى الأواني الفخارية التي إستخرجت من أشغال الحفريات ، أو التي بقيت ‏في المنازل بعد أن أبيد أصحابها .
ومهما يكن ، فقد أنهى الباحث التاريخي بريدجر فيلبي، Bridgger Philippy بقوله : “أن معاول الآثاريين هي الكفيلة بإبراز ‏ما تحتويه مدينة “ثمود” أو “مدائن صالح” من كنوز تاريخية تراكمت عليها المخلفات الترابية عبر الأزمنة والعصور .‏
وبعد زيارة فيلبي قامت بعثة من جامعة لندن مكونة من كل من علمء الآثار  بيتر بار ‏Peter Parr، وجون دايتون ‏Jhon Daytoon، ولنكستر ‏هاردنج ‏Lankestr Hprding، في سنة  1968م بزيارة “مدينة ثمود”، وأقامت البعثة العلمية المذكورة فيه ثلاثة أيام حيث قامت بمسح طوبوغرافي ‏لمآثرها السطحية، كما وجدت هذه البعثة شيئا من الأواني الفخارية التي استطاعت أن تؤرخ جزءًا من تاريخ شعب ثمود ، لتؤكد أن الحصيلة المستخرجة من هذه الأواني ‏تعود للعصر البرونزي، أي الألف الثانية قبل ميلاد المسيح ، مع وجود أنواع تؤرخ بفترات لاحقة ، مما يعني ‏أن حضارة “ثمود” إستمرت قرونا متتالية، إلى أن حاق بهم عذاب الله .‏

ولأن العلم يعضِّدُ الدين ، فقد يمكن تقريب ما وقع لشعب ثمود، الذي أبيد عن آخره ، وكأنهم حسب مفكرين إسلاميين ‏من ضمنهم الدكتور الراحل عبد الصبور شاهين، قد تعرضوا لكارثة شبيهة بالقنبلة الــ “نيثروجينية” أو الـ”هيدروجينية” ، كانت قد أبادت النسل والحرث ‏والضرع، وتركت العمران ومعالمه شاهدة عنهم .‏
‏ ويُخبر القرآن الكريم عنهم : “كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(18)إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ ‏مُسْتَمِرٍّ(19)تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ(20)فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(21)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ ‏مُدَّكِرٍ(22)”.‏
وقد ورد ذكر ثمود في القرآن مقرونا بقوم عاد غالبا وأخبر القرآن عنهم “أنهم كانوا ينحتون الجبال ليصنعوا لهم بيوتا” كما ورد ‏ذكر ثمود في نصوص الآشوريين من خلال أحد معارك سرجون الثاني،الملك الأشوري والتي انتهت بانتصار مملكة ‏آشور على الثموديين .‏
وفي سنة  1981م زار الموقع فريق من وكالة الآثار والمتاحف السعودية التابع لوزارة المعارف “وزارة التربية والتعليم ‏حالياً”، وكان موقع مدينة ثمود من ضمن المواقع الممسوحة طوبوغرافيا ومجهريا ، فتحدث تقرير الوكالة المعنية عن المظاهر الأثرية على سطح الموقع، وخص ‏مادة الأواني الفخارية من بين المواد الأثرية المنقولة بحديثٍ مفصل نوعاً ما، ولكنه لم يتجاوز كثيراً الاستنتاجات التي ‏سبق أن طرحتها بعثة جامعة لندن . ‏

بعد ذلكــ  أفرد “بيتر بار” Peter Barr  مقالا إستطلاعيا عن موقع مدينة شعب ثمود نشره عام 1992م في الموسوعة الثوراتية ، حيث ارتكزت استنتاجاته على ‏دراسته لمادة الأواني الفخارية القديمة ، التي عُثر عليها أثناء عمليات التنقيب والحفْر،  وقدم العديد من المقارنات ‏والاستنتاجات التي خلُصتْ أن تاريخ الأواني الفخارية التي وُجِدت بالموقع يعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد ، وأثبتَ بالأدلة الإستقرائية أن هذه الأواني والأدوات الفخارية مصنوعة  محلياً، ولم تكن مجلوبة من طرف القوافل، من حضارات مجاورة، مما يفيد وجود أنشطة صناعية لدى شعب ثمود .

في سياق مماثل ، نشر عالم الحفريات  دايتون Daytoon مقالاً ناقش فيه مجموعة من قطع  الأواني الفخارية التي تم العثور عليها بموقع مدينة ثمود أثناء عمل بعثة علمية من جامعة ‏لندن ، بناء على المسح السابق لسنة  1968م  .‏
‏ وبالإضافة إلى ما ذكر توجد العديد من الأبحاث التي تطرقت للأواني والأدوات الفخارية التي عُثر عليها بمدينة ثمود ومع وجود كل هذه الأعمال العلمية المذكورة يبقى بحث ‏فيلبي Philipy و دايتون  يمثلان القاعدة الأساسية لدراسة هذا الموقع السحيق في القدم ، خصوصا وأن هذا المقال كان قد كتبه فيلبي  كان الموقع الأثري لشعب ثمود لا يزال يحتفظ بكثير ‏من مظاهره السطحية، إضافة إلى مختلف التفاصيل التي أتصف بها المقال في كل النقاط ، وبخاصة مناقشته للمظاهر الأثرية ‏المعمارية الظاهرة على سطح الموقع ، وتطرقه إلى طبوغرافية موقع مدينة شعب ثمود وما حولها. وهو ما جعل  ترجمته ونشره خلال السبعينيات من القرن الماضي ، تحظى بالأهمية البالغة .

موقع أثري ورحالون

هذا، وكان  العالم قد عرف وجود الآثار القديمة في مدائن صالح ، أو مدينة شعب “ثمود” الواقعة على بعد حوالي 45 ميلاً شمال غرب تبوك ‏على الجزء السعودي من خطة سكة حديد الحجاز التاريخي ، لأكثر من قرن.

فقد ذكر الموقع لأول مرة سنة 1848 من طرف الرحالة السويدي ‏ج. أ. والين، J A VALLIN الذي وصفه د.  هوكارث Hukkart “كواحد من أوائل الأوروبيين ممن وطأت أقدامهم أرض الجزيرة العربية على ‏الأطلاق.” ولكن، بالرغم من قدرة ج. أ. والين، J A VALLIN على عبور الجزيرة العربية بسهولة جداً ذهاباً وأيابا، دون أن يعترض طريقه قطاع الطرق ، أو تعرقله صراعات القبائل العربية، فإنه ظل  يحظى بتقدير مختلف المجامع الأكاديمية في أوروبا، وقد سار على منواله خلفه  في المنطقة، العالم الرحالة البريطاني “دوجلاس كروثرز”، D  Crothzeer رغم كون هذا الأخير عبر في مذكراته عن خيبة أمله أثناء وصوله ‏إلى تبوكــ بسبب تخوف سكانها منه إلى درجة أنه خلال عشرين يوماً ، لم يستطع مطلقاً أن يقنع أي بدوي عربي بإصطحابه كدليل ‏إلى مدينة ثمود أو حتى إلى أطلال موقع بلدة “القصير” القديمة الأثرية الواقعة في طريق ثمود، ومن المرجح أن بلدة “القصير” كانت هي الأخرى مستوطنة ثانوية من شعب ثمود .‏

ثم جاء “تشارلز داوتي” رحالة أوربي آخر الذي سمع عن آثار مدينة ثمود، وسافر متخفيا مع قافلة للحجاج في شهر نوفمبر ‏عام 1876 وإستطاع أن يدخل في طريقه إلى “مدائن صالح” أو مدينة “ثمود” مما جعله يصنع مجداً أثرياً باكتشافه ‏ووصفه لآثارها النبطية. ‏

وقد روى الرحالة “تشارلز داوتي”Charles Dawtty قصة مدينة ثمود ، التي هي على بعد مسيرة إلى الشمال من تبوك، ووصف أثارها بكونها مدينة ‏عملاقة وسط الصحراء ممتدة في التلال الجرداء، وأورد أن البدو الأعراب يتناقلون عنها حكايات متواثرة وعن الثروات والكنوز الموجودة بها، وعن ما يسكنها من أرواح وأشباح، وسجل حكاية شفوية سمعها منهم، في كون قطع عملة ذهبية تحرج من الأرض في كل جمعة ، وأن البدو الأعراب من رجال القبائل المتاخمة، يقتحمونها مسرعين ، وأنهم لا يدخلونها أثاء الليل . ‏
وذكر “تشارلز داوتي” أن رجلا عربيا من قبائل بني عطية ، ذكر له أنه يوجد كهف من الحجر الرملي ،بــ “مدائن صالح” مدينة شعب ثمود لم يسبق أن ‏زاره أحد، وله بوابة وبعدها بهو منحوت في الصخر، وفي جدرانه غرف جانبية، أقسم أنها مثل الحوانيت في السوق، ‏توجد بها كنوز وثروات عظيمة ، من خلف باب لا يدخل منه أحد، وأن الباب يحرسه رجل أسود بسيفه المسلول، أشار أنه مارد من الجن .‏
وفيما بعد بأقل من سنتين، في الرابع والعشرين من فبراير عام 1878م استمر الإيرلندي ريتشارد بورتن وهو رحالة ‏مستكشف آخر من ساحل البحر الأحمر فوصل إلى رأس الخورياتة عبر الحافة الغربية لهضبة حسمى من أجل نظرة ‏سريعة للأرض الواعدة التي من على عتبتها أجبرته عدوانية وفوضى بدوها على الرجوع. ‏
وأفاد “ريتشارد بورتن” في مذكراته أنه في طريقه مع البدو في الصحراء ، رأى كسرة من نقش نبطي نحت ببراعة في ‏حجر رملي أبيض ليّن، قد تم تكسيره بوحشية ، وكانت كل قطعة منه تصل إلى مترين، تضمنت بالكامل لكتابات نبطية ‏ذكر أنها يمكن أن يُحصل منها على معلومات مفصلة حول “حضارة ثمود”.


وفي سنة 1878م نشر” جال روان” كتابه الممتع “مناجم الذهب في مدين” والذي تضمن حديثا عن شعب “ثمود” و عن مدائن ‏صالح ، مؤكدا ” أن هذه المدينة لم يزرها أي رحالة أوروبي “.‏
وفي سنة عام 1884م زار تبوك الرحالان المشهوران الفرنسي “جيل أويتنج” والألماني “تشارلز هوبير” وهما في ‏طريقهما لاكتشاف مسلة تيماء المشهورة، والمتواجدة الآن بمتحف “اللوفر”، ولكنهما لم يصلا إلى آثار مدينة ثمود التي ‏من المؤكد أنهما سمعا. بعد ذلك يبدو أن إقليم تبوك بقي في النسيان لمدة ربع قرن، وفي عام 1910م ظهرت في الأفق مرة ‏أخرى كنتيجة لزيارات ما لا يقل عن أربعة مستكشفين أوروبيين من ذوي القدرات العالية.‏

إعادة اكتشاف ثمود

كان أول من إكتشف مدينة ثمود من الغربيين هو العالم الرحالة “دوكلاس كروثرز” الذي كان هدفه الأول الكتابة عن ‏‏”حيوانات الغزلان” المعروفة بالريم العربي، والتي طالما تغنى بجمالها وخفة ظلها الشعراء العرب عبر العصور ، والتي كانت حتى أواسط القرن 19  وبداية القرن العشرينالميلاديين وفيرة في صحراء الجزيزة ‏العربية الشمالية ولكنها انقرضت الآن من المنطقة ذاتها، لتقتصر فقط على المحميات في تهامة وبعض مناطق الحجاز، علماً أنها لا تزال توجد في صحراء الربع الخالي وعلى أطرافها، وكذا ‏طيور النعام التي كانت حينها منقرضة في الجنوب، ولا تزال منذ جيل أو أكثر ترعى بمناطق الشمال الحجازي وعلى مستوى أراضي نجد في أعداد كبيرة، مع أنها ‏اختفت تماماً خلال القرن المنصرم نتيجة الصيد الجائر وتعقبها بالسيارات. ‏

هذا،ولم يُنشر تقرير “كروثرز” عن رحلته الذي احتوى على تيماء حتى عام 1935م، ويحتوي فقط على إشارة عابرة إلى ‏مدينة ثمود كموقع مهجور بين التلال شمال تبوك، مؤكدا آنذاك أنه موقع لم يكتشف بعد.‏
وبعده مباشرة جاء القسيسان “جوسين” و”سافنياك” بالقطار الجديد يومذاك إلى تبوك من المدرسة التوراتية في القدس. ‏وقد استطاعا أن يزورا قُصير تمرة ، وضواحيه المباشرة في سبيل البحث عن النقوش الثمودية وعن مدائن صالح والعلا ‏وتيماء وقد جمعوا سبعمائة نقش أثري .‏
ومهما يكن ، فقد جاء بعدهما العالمان الأثريان “تشارلز هوبر” و”يوليوس أويتنج” في الثمانينات. كانت تحركاتهم في تبوك محدودة، ‏فلم يزورا مدينة ثمود ولا أي مواقع أثرية قديمة أخرى في تلك الضواحي ماعدا منطقة “قُصير تمرة” .‏
كان في صيف السنة 1935نفسها عندما سافر المستكشف النمساوي الويس موزل, الذي كان يعرف جيدا شمالي الجزيرة ‏العربية, من مدينة العقبة الأردنية إلى منطقة مدين، فدخل أرض ثمود من الغرب: ليصبح أول مستكشف لجزئها الجنوبي، ‏حيث عبر من منطقة الساق إلى منطقة تبوك، وأعاد اجتيازها في اتجاه جنوب غربي ليكتشف معبد “روافه الصحراوي” ‏ويطلع على نقوشه اليونانية و النبطية، ويكتشف عود رخامي طويل كُتب عليه تكريما لأمبراطورين الرومانيين ‏‏”ماركوس اورليوس انطنيوس” و”لوكس اورليوس فايروس”. ‏
وكان  النمساوي “الويس موزل” قد إنطلق في اتجاه الجنوب ليعبر حقل “اللافا البركانية” الفسيح من مدينة “الرها” بالقطار، ومن ‏هناك رجع إلى مدينة معان .‏
وقد قام النمساوي موزل برحلته هذه، متجشما المخاطر، وما وصفه في مذكراته بفوضى قبائل بني عطية ، وهي ‏الفوضى – حسب تعبيره – التي كانت تلعب فيها نساء البدو دوراً بارزاً، غير أنه لم يكن قادراً أن يزور مدينة ثمود التي ‏ذكرها عرضاً في نص كتاب رحلته الضخم المنشور في أمريكا بعد ستة عشر سنة من قيامه بالرحلة التي إكتفى فيها ‏بزيارة البتراء، عاصمة الأنباط .

هذا، وبرحيل موزل أسدل الستار مرة ثانية على أسرار ثمود ، التي يبدو أن جيش الأمير ‏فيصل مرّ من جانبها، لتظل مدينة ثمود بكراً عصيت عن الإستكشاف، وليبقى سحرها غير مدروس، ومتوارية عن ‏الأنظار لقرون متتالية .‏

هـــــلاكـ  ثـمـود

ومن الوجهة الدينية ، وكما هو معروف ، فقد أرسل الله نبيه العربي صالحاً عليه السلام إلى شعب ثمود الذين آتاهم الله من التمدن والقدرة على التغلب ‏على جفاوة الصحراء ، والقوة والبأس ما كانوا به يقطعون الصخر وينحتون الجبال ويتخذونها بيوتًا, وأرسل معه الناقة ‏آية بينة مبصرة على صدق نبوته، فكذبوه واستهزئوا بعذاب الله وقتلوا الناقة, فعاقبهم الله بما أخبر في كتابه, فأمهلهم ‏صالح عليه السلام ثلاثة أيام أصابهم بعدها عذاب الله وانتقامه مصداقا لقوله تعالى : “إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا ‏كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِر”. وقال تعالى: “فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِين” “وإنما عَنَى بـ (الرجفة) ها هنا الصيحة ، ‏التي زعزعتهم وحركتهم وما نجم عنها من هلاكــ  ، وقد يفهم منها وباءا وليس زلزالا، وإشعاعا وليس دمارا ، لأن البيوت والآثار ظلت ‏قائمة ، وقد قال الإمام الطبري : أن ثمودا هلكت بالصيحة، ولم يزد على ذلكـ .‏

وقد قال تعالى: “فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَة” أي بالصيحة التي طغت وفاقت كل الصيحات ، كما رجح ابن جرير، فكان ‏عذابهم بالصيحة “فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِين” أي صرعى لا أرواح فيهم .‏
في حين تورد مصادر إسلامية أخرى عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: “لا ‏تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين” ثم غطى رأسه بثوبه، وأسرع في السير حتى تجاوز منطقة ديار ثمود و الوادي المجاور لها . ‏
ولكن الصحابي ابن عمر رضي الله عنهما يورد “أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ‏ثمود, فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهرقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل ‏العجين, وأمرهم أن يستقوا من البئر فقط التي كانت تَرِدُها الناقة”، ويبدو أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ‏زيارتها مطلقاً بل أباحه بشرط التفكر والخوف والاعتبار فقال: “لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين”، وهو ما عبر عنه الإمام الفقيه ‏ابن الجوزي  في معنى البكاء الوارد في الحديث: “إنما ينشأ البكاء عن التأمل في المكان والتفكر في المصير .‏
وهذا هو معنى النظر في عاقبة الظالمين المكذبين كما ورد في الآيات القرآنية ، وأكمل الاعتبار والتفكر يكون بالبكاء من ‏خشية الله.‏
من جهة أخرى،  ذهب فقهاء متشددون آخرون أن هذا النهي للتحريم خلافاً لمن قال بالكراهة؛ فقد نهى الرسول الصحابة وهم في ‏الجهاد عن الدخول لهذه المدينة إلا على هذه الصفة، فكيف لمن كان قصده النزهة لا غير، وأشار هؤلاء أن الأصل في ‏النهي هو التحريم .‏

ثمود في التاريخ

تقع ديار ثمود في مدينة الحجر على بعد 22 كيلومتر, شمال شرق مدينة العلا, وهو المكان المعروف عند الناس بمدائن ‏صالح, وما زال اسم الحجر منتشراً بين أهل تلك المنطقة إلى اليوم, وقد ذكر الحجر في القرآن ، مصداقا لقوله تعالى “وَلَقَدْ ‏كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِين”, ومذكور في السنة كما في صحيح البخاري عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله ‏عنهما أخبره: “أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر فاستقوا من بئرها واعتجنوا به ‏فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهرقوا ما استقوا من بئرها وأن يعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر ‏التي كانت تردها ناقة صالح صلى الله عليه وسلم ” .‏
وهذه هي المنطقة المعروفة المشهورة منذ قرون إلى يومنا, وهي أظهر وأشهر ما يراه المسافر من الشام للحجاز, وقد قال ‏ابن كثير في تفسيره : “وثمود قوم صالح كانوا يسكنون الحجر قريباً من وادي القرى, وكانت كل العرب تعرف مساكنهم ‏جيداً, وتمر عليها القوافل كثيراً “، أما المؤرخ والمحدث البلقيني فقد أكد أن معرفة بئر ناقة صالح  معلوم بالتواتر.‏

وتبقى مدينة الحجر مدينة معروفة في طريق الحجاج, حيث يعرف الناس بئر الناقة ويردون عليها ويستقون ويشربون ‏منها, إلى أن طمر بئر الناقة في الأزمنة المتأخرة, فصاروا يمرون على ديار ثمود ولا يعلمون أين توجد بئر الناقة.‏
كما أورد  الإسفرياني في جامع البيان : “جزم علماؤنا أنه لا يباح من آبار ثمود إلا بئر الناقة, وقد قال ابن تيمية هي البئر ‏الكبيرة التي يردها الحجاج في هذه الأزمنة، يعني عصره .‏
وقد أشار  ياقوت الحموي العالم الجغرافي المعروف في التراث الإسلامي والعالمي  في كتابه الشهير “معجم البلدان” : أن الحِجْر اسم ‏ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام, كما أورد الجغرافي الإصطخري أن الحجر قرية صغيرة قليلة السكان, في وادي ‏القرى على مسافة يوم بين الجبال الضخرية الشاهقة ، وذكر أن بها كانت منازل ثمود.

ولقد إستدل كل من ياقوت الحموي والإصطخري ‏بقوله تعالى : “وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ” وقد زارها ياقوت الحموي فوصفها في كتابه “معجم البلدان” كاتبا : ‏إني رأيتها بيوتا مثل بيوتنا في أضعاف “واجهات”جبال, وتسمى تلك الجبال الأثالث، وهي جبال إذا رآها الرائي من بعد ظنها ‏متصلة، فإذا توسطها رأى كل قطعة منها منفردة بنفسها، يطوف بكل قطعة منها الطائف وحواليها الرمل، لا تكاد ترتقى ‏كل قطعة منها قائمة بنفسها، ولا يصعدها أحد إلا بمشقة شديدة، وبها بئــــر ثمــــود التي قال الله فيهــا وفي الناقة “لَهَا ‏شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ” .‏

لغز الإبـــادة

في حين يؤكد العلم ، قول القرآن الكريم بكارثة الصيحة فقط ، أو ما يعرف الآن بالإشعاع القريب من الهيدروجيني ، وأن ‏عذاب الله لثمود قوم صالح كان الصيحة وليست الزلزلة، كما في الآيات الصريحة الدالة على ذلك، حيث لا توجد آثار ‏زلزال في المباني بالمدينة كلها، في حين يؤكد علماء جيولوجيين وعلماء آثار وجود آثار لزلزال في منطقة أخرى قريبة ‏من مدينه ثمود على ساحل البحر الأحمر، وقد تنبه المؤرخ الإسلامي  الشهير ابن جرير الطبري لقوله تعالى : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ ‏جَاثِمِين”، مما يدل على أن عقاب الله لحق بشعب ثمود وليس بديارهم .‏
يشكل على البعض وجود عدد من أمارات التواجد والحراك السكاني في الحجر, كوجود سكة الحديد والقلعة، إضافة إلى ‏أن فيها محطة لقوافل الحجيج واستراحاتهم, فكيف تكون هي المنطقة المنهي عن دخولها من طرف الرسول إلا على حال ‏البكاء، مما يدعو إلى الشك في صحة الحديث الذي أورده البخاري وغيره من بعض المحدثين ؟
وأن الرسول عليه السلام لايمكن أن يمنع مصلحة راجحة, كالمحافظة على ماء بئر الناقة, أو حماية قوافل الحجاج من ‏العطش.‏

مــرور النبــي

هذا، فإن وصْفَ المؤرخين وعلماء الجغرافيا لثمود المدينة وبنائها كله يشير إلى قطعا إلى المنطقة التي تعرف اليوم بمدائن صالح, فثبت ‏للجميع من القدماء والجدد أنها بنايات في الجبال في مدينة الحجر في طريق المسافر من الحجاز للشام.‏
وفي المراجع التاريخية وكتب السيرة النبوية ، أن  الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, قد مر بها وأنها هي ديار ثمود قوم النبي صالح عليه السلام, وما زال ‏الناس يتناقلون الخبر عنها جيلاً بعد جيل من قبل الإسلام، على الظن الجازم الذي تحول إلى القطع بعد مرور النبي صلى ‏الله عليه وسلم منها، حيث غطر رأسه في ثوبه ولم ينظر إليها .‏
ومع ذلكــ ، يستشكل بعض الناس ما يقوله بعض علماء الآثار من معلومات ، حيث قد يظن لأول وهلة أنها مدينة الحجر أو ‏ما يسمى اليوم بمدائن صالح، التي ليست سوى ديار ثمود وقوم نبي الله صالح عليه السلام.‏

ويستشكل آخرون من علماء الآثار والحفريات كون الرسوم والكتابات في الحجر من صنع الأنباط في القرن الثاني قبل الميلاد فكيف تكون هي ‏ديار ثمود؟

في حين يرى علماء آخرون إمكانية سكن هذه المدينة من طرف اللحيانيون قبل ميلاد المسيح عليه السلام ‏بتسعة قرون, بعد فناء دولة وشعب ثمود ، ثم إحتلالها من طرف الأنباط في القرن الثاني قبل الميلاد عندما  وجدوا مدينة جاهزة، ‏واتخذوا من بيوت الحجر معابد ومقابر لهم، وأعادوا زخرفتها ونسبوها لأنفسهم ، كما تدل على ذلكــ نقوشهم وكتاباتهم, بل وجعلوها ‏عاصمتهم الجنوبية, بعدما كانت البتراء عاصمتهم الشمالية.‏
ومع ذلك يبقى لها أحكامها الدينية في كون النبي محمد صلى الله عليه وسلم مر مع الناس بها فقال:لا تدخلوا بيوت الذين ‏ظلموا أنفسهم” حسب ما رواه البخاري في صحيحه..‏


مــــراجـــــع : 

^ تفسير الطبري 30/ 113
^ M. Th. Houtsma et al., eds., E.J. Brill’s first encyclopaedia of Islam, 1913-1936
^ Rawllnson, Cunal Form Inscriptions, Vol., I, PI., 36, Lyon, Sargon, P., 4, Musil, Deserta, P., 291
^ هوتسما et al., eds., E.J. Brill’s first encyclopaedia of Islam, 1913-1936
^ Phillip Hitti, A History of the Arabs, London: Macmillan, 1970, p. 37.

^ “Al-Hijr Archaeological Site (Madâin Sâlih)”. اليونسكو – مواقع التراث العالمي. اطلع عليه بتاريخ 22 أكتوبر 2014.
^ “«مدائن شعيب»..عبقرية تضوع بعبق التاريخ”. صحيفة عكاظ. 29 يناير 2013. اطلع عليه بتاريخ 24 ديسمبر 2014.
^ Dedan and Its Santuary
^ Alexander Sima: The ancient name of Dedan. in: Biblical Notes 104 (2000), pp. 42-47.
^ المفصل ج 2 ص 201
^ المفصل ج 2 ص 202
^ Grimme – H. Grimme, Neubearbeitung der wichtigeren Dedanischen und Lihjanischen Inschriften, Le Muséon, vol. L, Louvain 1937 p.271
^ Werner Caskel,Die Bedeutung der Beduinen in der Geschichte der Araber Köln & Opladen : Westdeutscher Verl., (1953) p.94
^ جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج 2 ص 244
^ Ancient Arabs – قدماء العرب: تماثيل لحيانية – Lihyanite Statues
^ تعدى إلى الأعلى ل: أ ب P.K. HITTI, OP. CIT., P.72
^ جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 2/ 244
^ F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.93
^ F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.94 وكذا A. MUSIL, THE NORTHERN HEGAS, P.29
^ جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 2/ 243
^ عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن بعض المدن القديمة في شمال غربي الجزيرة العربية 1/ 79
^ W. CASKEL, LIHYAN UND LIHYANISCH, P.44
^ F.V. WINNET AND W. REED, OP. CIT., P.116F
^ عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن بعض المدن القديمة في شمال غربي الجزيرة العربية ص80.
^ جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 2/ 24
^ جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 2/ 247
^ F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.95
^ تعدى إلى الأعلى ل: أ ب جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 2/ 246
^ W. CASKEL, OP. CIT., P.35
^ ديتلف نلسن: التاريخ العربي القديم ص43.
^ W. CASKEL, OP. CIT., P.42
^ The New Encyclopædia Britannica: Macropædia Volume 13. USA: Encyclopædia Britannica, Inc. 1995. صفحة 818. ISBN 0-85229-605-3.
^ “HISTORY: Creation of Al-Hijr”. Historical Madain Saleh. اطلع عليه بتاريخ 2014-04-07.
^ The New Encyclopædia Britannica: Micropædia Volume 5. USA: Encyclopædia Britannica, Inc. 1995. صفحة 809. ISBN 0-85229-605-3.
^ The New Encyclopædia Britannica: Macropædia Volume 13. USA: Encyclopædia Britannica, Inc. 1995. صفحة 840. ISBN 0-85229-605-3.

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.