لينين زعيم البلاشفة، عاش سنوات برصاصة في رأسه

مـحـمـد الـقـنـور  :

يؤكد بعض المؤرخين أن لينين وفلسفته ونهج حكمه المعروف باللينينية أمورٌ سيئة، وأن لينين قد حكم بطريقة ديكتاتورية في حزبه البولشفي وفي بلده روسيا ، وبعد ذلك حكم بنفس الطريقة الدولة التي أُنشئت بعد أكتوبر 1917 ، سنة الثورة الروسية الدامية، ويتهمونه أنه كان  مسؤلاً عن موت الآلاف وعن التأسيس لمجتمع استبدادي، وأن ستالين ، كان مجرد وحش فظيع ، وأنه لم يكن إلا شخص يتبع خطوات لينين، وأنه لم يختلف عن أشخاص مثل طغاة  “نيرون”و”كالكولا” و”الحاكم بأمر الله” الفاطمي وإيفان الرهيب” و”الحجاج بن يوسف الثقفي” و”هتلر” و”بول بوت” وغيرهم ، إذ  لا يختلف عن أي واحد من أكثر هؤلاء الحكام وحشية في العصور القديمة والحديثة.

ومن أكثر المجلدات رواجاً في العالم ، أن “مارتن آميس” استغرق بعض الوقت للخروج من كتابة الروايات عن الجنس والعنف ليستعرض معلوماته الهائلة عن تاريخ روسيا، مستنتجاً أن لينين وتروتسكي لم يسبقا ستالين  في سياسة الرعب ، عندما أنشئا دولة بوليسية شمولية تعمل من أجل مصالحهم .
فقد إنتقد اليساريون لينين على معارضته الحركة الأناركية المستقلة في أوكرانيا، وتدمير اللجان العمالية التي نشأت في المصانع بعد الثورة!
ومع ذلكــ ، فلاتزال شخصية لينين الحقيقية ، الذي إبتدأ حياته صحافيا ، تُعتبر الأكثر تعقيداً. فبالتأكيد أنه ارتكب بعض الأخطاء، وكان قاسياً بعض الشيء، ولكن من أجل مصالح القضية في نظره وفي نظر تلاميذته ، وليس من أجل أن يملأ جيوبه، وقد ناضل بدون كلل أو ملل من أجل ما آمن به. وفوق كل ذلك لعب دوراً محورياً في ثورة أكتوبر 1917 الروسية. وقد فتحت الثورة الروسية، قبل أن يخمدها ستالين، الباب أمام عالمٍ جديد، عالمٍ يكون فيه الإنتاج من أجل احتياجات البشر وليس من أجل الربح، عالم تُتخذ فيه القرارات عن طريق أولئك الذين يعملون وليس الذين يملكون، عالمٍ يتعاون فيه جميع البشر من جميع الأجناس والجنسيات بدلاً من محاربة بعضهم البعض، عالمٍ لا تعرف فيه الأجيال الجديدة شيئاً عن الفقر والحروب إلا عن طريق دروس التاريخ فقط ، مندهشين من كيفية حدوث تلك الأشياء البشعة من قبل.
ولكن العالم اليوم مختلفٌ تماماً عما عرفه لينين، فقد  كانت منشورات لينين في البداية مكتوبة بخط اليد، ولكن اليوم أصبحت الأفكار تسافر من خلال دفق المطابع والأنترنيت عبر الكرة الأرضية بمجرد الضغط  على زر من أزرار الحاسوب .

فــإذا عاد لينين مرة أخرى إلى الحياة سوف يدرك بعض الأشياء بسرعة وهي أن العولمة قائمة، وأن الليبيرالية تحولت إلى فكرة  متوحشة ، وأن الحروب لاتزال حروبا أبدية، وأن الفجوة تزداد دائماً بين الفقراء والأغنياء، وأن نهب الدول الضخمة للبلدان الفقيرة مستمر، وضعف وفساد معظم السياسيين قائم .

فــالمحور المركزي لحياة لينين كان ضرورة في بناء التنظيم الثوري. وبالنسبة للشكل الذي يجب أن يكون عليه هذا التنظيم، فهذا يختلف من وقت إلى آخر. ولا وجود لمثل هذا الشيء الأسطوري الذي يُسمى بـ”الحزب اللينيني”، فأعمال لينين لم تكن كتباً وصفية، واللينيني الجيد ليس من يقتبس دائماً من لينين، فتحليل تجارب وخبرات لينين يمكن أن يساعدنا في فهم أساليبه لتسهيل مهمة في تطوير الأشكال التنظيمية التي يحتاجها النضال .

كيف أصبح لينين ثورياً ؟

فلاديمير أوليانوف، والذي سيعُرف لاحقا  بلينين، وُلد عام 1870 لأب كان يعمل مفتشاً للمدارس. كانت روسيا في ذلك الوقت إمبراطورية ضخمة عاش فيها الناس وماتوا وهم فلاحين أميين كانوا ينددون بالعمل المضني والمجاعة الدورية، وكانوا يعلمون القليل عن الحياة خارج قراهم الأصلية إلا إذا أُرسلوا للذبح كباقي الجنود. لم تُلغى العبودية، والتي كانت تجعل الفلاحين ملكية خاصة لملاك الأراضي، إلا في عام 1861. وقد حكم القيصر بدون أية مؤسسات برلمانية.
في ذلك الوقت كان الشعبويون يمثلون القوى اليسارية في البلاد، وأُطلق عليهم آنذاكــ “المدمرون”. وقد تكونت مجموعاتهم بالأساس من الطلاب والمثقفين الذين آمنوا بضرورة تحرير الفلاحين المضطهدين. وكانت أساليبهم عبارة عن إلقاء المتفجرات والقيام بالاغتيالات. وقد أظهرو شجاعة هائلة ولكن بدون تأثير كبير. وقد شارك شقيق لينين في هذه الأعمال وأُعدم من طرف القيصر عام 1887.

وهو ما دفع لينين في أن يتحول ثورياً، وقد استغرق لينين بعض الوقت ليجد الاستراتيجية التي تمكنه من تغيير العالم، وفي النهاية وجد كتابات كارل ماركس.

وقد عارض ماركس عالم الإقتصاد والسوسيولوجي والفيلسوف الألماني 1818 / 1883 الرأسمالية ، لكونها  تعمل على استغلال العمال الذين يحصلون على قيمة أقل بكثير من قيمة السلع التي ينتجونها. وتنبأ بأن العمال المستغلينفي بريطانيا سيحفرون مقابر النظام الرأسمالي بالثورة وسيقومون بتأسيس مجتمع يعتمد على الملكية العامة، وكان ماركس يرنو إلى  العمال، وليس الفلاحون.

كان ماركس مع كل ذلكــ ، يؤكد أن للعمال دور محوري في التغيير الاجتماعي. فالفلاحون الذين تخلصوا من ملاك الأراضي استطاعوا أن يتقاسموا الأرض فيما بينهم، ولكن العمال لن يستطيعوا تقسيم مصنع، فالحل الجماعي هنا ممكنٌ.
وعلى كل حال ، فقد آمن لينين بأن على الثوريين أن يتواجدوا في الأماكن التي يتواجد فيها العمال. ففي بداية التسعينات من القرن التاسع عشر بدأت تتكون حلقات صغيرة من العمال المثقفين الذين يبتغون المعرفة، ولكنهم كانوا بعيدين تماماً عن زملائهم الآخرين من العمال. وقد جادل لينين أنه يجب على الاشتراكيين أن يشاركوا بأنفسهم في النضالات الحقيقية حول القضايا الهامة مثل تحسين الأجور وتحسين شروط العمل، ولكن هذه المشاركات كانت محدودة في ذلك الوقت.

والحق، أن لينين بدأ  نشاطه في سان بيطرسبورج في تسعينات القرن التاسع عشر بمجادلته حول ضرورة التحريض داخل المصانع، فكان نشاطه عبارة عن دراسة لظروف العمال داخل المصانع وإصدار المنشورات وتوزيعها عليهم.
وفي عام 1899 أصدر لينين كتابه “تطور الرأسمالية في روسيا”، وكان نتيجة ثلاثة أعوام من الأبحاث التي قام بها أثناء وجوده في السجن والمنفى. واشتمل الكتاب على تفاصيل كاملة وجداول إحصائية، ولكن النقطة الأساسية فيه كانت بسيطة.

كانت روسيا بالأغلبية الساحقة دولة زراعية، فيما كانت الصناعة الحديثة لاتزال في طور النشأة وبالتالي كانت تنشأ طبقة عاملة. والشعبويون كانوا على خطأ؛ فمستقبل روسيا كان يقع بين أيدي الطبقة العاملة.
وقد زاد تأثير هذا التطور كثيراً، فالرجال والنساء كانوا يُستغلون بطرق وحشية، وقد أخذهم تطور الصناعة خارج نطاق الجهل والعزلة اللذين كان يعاني منهما الفلاحون ووضعتهم في المصانع حيث الثورة الشاملة كانت ممكنة.
لا يمكن أن تعود الحياة إلى عصور ما قبل الصناعة: “كيف لأحد أن يصور لنفسه التجزئة المدهشة لصغار المنتجين ليصبحوا مقتنعين بتطور الرأسمالية التي حطمت الهيئات القديمة لأسس الاقتصاد والحياة”.
وفي المصانع، كما جادل لينين، بدأ الوعي الاشتراكي للعمال في التطور، فقد كان لينين يقول ويكتب أن : “كل إضراب يقدم أفكاراً اشتراكية قسراً لعقول العمال”.

البلشفية : ما العمل؟

وفي مؤتمر ضم 9 مندوبين فقط في مدينة مينسك عام 1898، تأسس حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي. لم يحضر لينين هذا المؤتمر بسبب أنشطته الثورية في سيبيريا.
كانت الأنشطة الاشتراكية في العهد القيصري غير قانونية أو شبه قانونية، فقليل من الثوريين استمتعوا بأكثر من عام من الحرية قبل أن يُلقى القبض عليهم ونفيهم في سيبريا. وما بين عامي 1900 و 1905 كان لينين منفياً بين لندن وميونيخ وجينيف.
في عام 1902 أصدر لينين كتاب “ما العمل؟” Que faire حيث عرض فيه أفكاره حول التنظيم ، رغم أن الكثير من نقاد لينين وأنصاره يستخدمون هذا الكتاب كبيان لوجهات نظر لينين حول ما يجب أن تكون عليه المنظمة الثورية في جميع الأزمنة والبلدان. وهذا محض هراء؛ لأن لينين كان يكتب في ظرف معين، وكتاب “ما العمل؟” هو وثيقة تاريخية وليس وصفة شاملة، ولكنه أيضاً يحتوي على جدالات هامة لا زالت ذات صلة باليوم.
قبل ذلك بسنوات قليلة، شدد لينين على أن النقابات العمالية يجب عليها أن توجه العمال نحو الأفكار الاشتراكية، ولكنه قال العكس بعد ذلك: “إن الحركة النقابية تعني أيديولوجيا استعباد العمال عن طريق البرجوازية”. كانت مبالغة كبيرة من لينين، ولكنه كان يريد أن يوضح أن مسئولية النقابات هي تحسين ظروف العمال داخل النظام الرأسمالي وليس التخلص منه.
أما الحزب فمسئوليته أن يناضل من أجل الاشتراكية، ونضال النقابات هو وسيلة لتحقيق تلك الغاية وليس الغاية نفسها؛ فالأفكار الاشتراكية لا تتطور من تلقاء نفسها، والمفكرين الاشتراكيين الرئيسين من ماركس واينجلز إلى لينين نفسه لم يكونوا عمالاً. عمال المصانع كانوا يكدحون دائماً في العمل لأوقات كثيرة قد تصل إلى 11 ساعة يومياً، فنادراً ما كان عندهم وقت الفراغ للقراءة أو الكتابة. وفي هذا السياق قال لينين أن: “الوعي الطبقي السياسي لا يمكن أن يتحقق للعمال من لا شيء، فهو يتحقق فقط من خارج الصراع الاقتصادي ومن خارج دائرة العلاقات بين العمال والموظفين”.
تسائل لينين حول كيفية سيطرة الأفكار البرجوازية على المجتمع، وقد رد على ذلك قائلاً: “لسببٍ بسيط؛ أن الأفكار البرجوازية أقدم بكثير في الأصل من الأفكار الاشتراكية، ولذلك فهي أكثر تطوراً، ولديها تحت تصرفها أدوات للدعاية بدرجة لا تقاس”. فما الذي كان سيقوله لينين إذا رأى وسائل الإعلام الحديثة؟
كما أوضح لينين أن الأفكار الاشتراكية لن تتطور تلقائياً عند العمال، فالنظام الحالي عنده أساليب قوية يحمي به نفسه، والاشتراكيون بحاجة لنفس الأساليب القوية ليناضلوا من أجل بدائلهم.
والجانب الحيوي لذلك كان التأسيس لجريدة اشتراكية، فالفصل النهائي من كتاب “ما العمل؟” نادى بضرورة إصدار جريدة اشتراكية تغطي جميع أنحاء روسيا. وبالنسبة للينين فإن الجريدة عمل جماعي منظم، ومثل هذه الجريدة ستحتاج إلى شبكة من العملاء يعملون كفريق منضبط ومنظم، ومثل هذه الأنشطة “سوف تقوّي اتصالاتنا بشرائح أوسع من الكتل العمالية”.
وكان لينين يكتب قي صحيفة  إيسكرا (الشرارة)، الافتتاحيات، كانت تُطبع في الخارج ويتم تهريبها إلى روسيا، أو يتم طباعتها سراً في مطابع داخل الأقبية بروسيا .
وقد لفت لينين الانتباه إلى أمثلة تاريخية كثيرة، وبالأخص في إشاراته إلى كوميونة باريس عام 1871، عندما استولت الطبقة العاملة على المدينة وحكموها لمدة 10 أسابيع قبل تعرضهم للذبح على أيدي قوات من الخارج. في الكوميونة كان كل أعضاء الحكومة العمالية يتقاضون متوسط أجر العامل، بل ويمكن استدعاؤهم في أي وقت من قبل أولئك الذين انتخبوهم – نفس شكل الديمقراطية داخل السوفييتات. قبل عام 1917 كان ذلك هو المثال الوحيد لسيطرة العمال على المجتمع. وبرغم قِصر عُمر الكوميونة، كان لابد من التعلم من هذه التجربة.

بعد وفاة لينين في سنة 1924 ، إجتهدت آلة الإعلام الستالينية في إبرازه كقائد جماهيري، لدى العمال والفلاحين .

نضال لينين الأخير

بحلول عام 1922 كان لينين مريضاً جداً، حيث كان يعاني من الإرهاق الشديد ومن إصابته برصاصة في رأسه إثر محاولة اغتياله التي تركته في حالة يُرثى لها. وقد أيقن أنه لن يعيش ليرشد الثورة في خلال مراحلها الصعبة.
فقد كان لينين قلقاً حول كيفية تطوير الثورة، في ظل انكماش الطبقة العاملة، وتمدد البيروقراطية داخل وخارج الحزب، وتبنيها طرقاً من طرف تروتسكي وستالين وغيرهما ، كانت غريبة عن ديمقراطية الطبقة العاملة، في ظل التطور الخطير للتوجهات القومية.
وقد كرس لينين ما تبقى له من قدرة على النضال ضد البيروقراطية المتنامية. وفي مقالة “من الأفضل أقل شرط أن يكون أفضل”، اعترف أن، بعد مرور خمسة أعوام على الثورة، جهاز الدولة صار بائساً للغاية وفي حالة يرثى لها. لم يكن هناك علاج سريع، بل الصبر في النضال من أجل ديمقراطية عمالية حقيقية، مع تقديم المزيد من العمال في أجهزة الدولة .
وقد إتفق معظم كتاب السير والمؤرخين على إن روح لينين الأمينة والجدالية كانت على النقيض تماماً من الرضا الذاتي والغطرسة اللذين ميزا الدولة الروسية تحت حكم جوزيف ستالين ، ونيكتا خروتشوف وليونيد بريجنيف وخلفائه.
فقد أُجبر لينين على التفكير فيمن سيخلفه في الحكم. وقد كتب وثيقة صغيرة توضح حجم القادة البلاشفة الآخرين. وكان ينقدهم جميعاً، وخصَّ ستالين بالنقد اللاذع، مؤيداً طرده من السكرتارية العامة للحزب.
منذ منتصف عام 1922 كان لينين يعاني سلسلة من السكتات الدماغية. وبحلول عام 1923 أصبح غير قادر على المشاركة في نقاشات الحزب الذي بناه. وعندما توفى في عام 1924 تم تحنيط جثته، وتحويله نوعاً ما إلى قديس، وكان هذا ما يروّعه قبل وفاته. وقد حثت أرملته، كروبسكايا، على عدم تحنيطه ، لكن ستالين لم يكن ليسمع كلامها .

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.