خامس الخلفاء الراشدين،عمر بن عبد العزيز،من حياة الترف إلى مسلكيات الزهد ‏

    عمر بن عبد العزيز ‏‏”681 م ـ 720 م”

مـحـمـد الـقـنـــور : ‏

ولد عمر بن عبد العزيز في حلوان بمصر أميرا ، وقيل حسب بعض المؤرخين في المدينة، من ‏أبيه عبد العزيز بن مروان بن الحكم وأمه أم عاصم ‏بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وحفظ ‏القرآن في صغره وتفقَّهَ في الدين على أيادي فقهاء وعلماء المدينة المنورة، وقد توفي والده ‏الأمير عبد العزيز بن مروان ، وهو لايزال حدثا في السن ، فاستدعاه عمه الخليفة عبد الملك بن ‏مروان إلى ‏دمشق فأقام عنده وزوّجه من ابنته الأميرة فاطمة.‏
ولقد أحبت هذه الأميرة فاطمة، الأمير الشاب، وأغرمت به لوسامته وأناقته، ولذكائه ‏وتقديره لأهل الفضل والعلم، وعشقه للعطور وللبذخ ، وفضلته على منافسيه في حبها من شباب ‏بني أمية وشباب الثقفيين وغير الثقفيين من العائلات الموالية لبني أمية.‏
وقد تولّى الأمير عمر بن عبد العزيز ولاية المدينة، في خلافة عمه عبد الملكـ بن مروان، ثم ‏عزل عنها في خلافة الوليد بن عبد الملكـ ، لأن الناس كانوا يفرون من العراق هربا من بطش ‏الحجاج بن يوسف الثقفي نحو المدينة، فيجهرون بإنتقاده دون أن تمسهم شرور من إدارة ‏عمر،وقد كان الخليفتين عبد الملكـ والوليد لا يطيقان أي إنتقادات في أبي محمد ، الحجاج بن ‏يوسف، ثم استوزره سليمان، وقرَّبه وجعله من مستشاريه، وقد ولاه الخليفة سليمان بن عبد ‏الملكـ ، بولاية عهده ، فبويع له بعد وفاته في ‏مسجد دمشق سنة 99 هجرية، الموافق لسنة 717 ‏ميلادية .‏
وقد إتفق معظم المؤرخين من عرب وأجانب ، أن إستخلاف عمر بن عبد العزيز ، كان الحل ‏الوسط لحل النزاعات داخل البيت الأموي ، والرامي إلى حفظ إستمرارية ملك بني أمية. ‏
وكان أول ما قام به الخليفة عمر بن عبد العزيز، أن أوقف الحروب الخاسرة ضد البيزنطيين، ‏التي ظلت تستنزف خزينة الدولة، دون فتح للقسطنطينية أو فائدة إستراتيجية تُذكر، وجهد في ‏محاولة مصالحة الموالي الذين عانوا من سياسة الخلفاء الأمويين ‏السابقين العروبية، تحقيقا منه ‏للسلم الإجتماعي مع الأقليات، فصار الموالي في زمنه يستطيعون الوصول إلى مناصب الدولة ‏الرفيعة كالولاية للبلدان والقيادة لفيالق الجيوش وكراسي القضاء والإفتاء والكتابة في الدواوين ‏وشؤون الحسبة وغيرها .‏
وعمل عمر بن عبد العزيز على التقرب من آل البيت، فأمر بوقف سبّ الإمام الخليفة الراشد عليّ ‏بن أبي طالب من على المنابر الأموية، وأعاد لبني هاشم ‏أملاكهم، وخفّف الضرائب عن الموالي ‏والفرس والمسيحيين واليهود والصابئة ، ورفع الخراج عمّن أسلم منهم ، وأنشأ هيئة لتعويض ‏‏تعويض مصادرة كنيسة القديس يوحنا، و أعاد لهم كنيسة توما ‏‎ Thomas ‎في دمشق.‏
كان عمر بن عبد العزيز زاهداً فلم يقرب ما تركه الخلـفاء من قبله، عبد الملكـ وإبنيه الوليد ‏وسليمان، وما عُرف له في التاريخ من ممتلكات عند استخلافه ، وقد خَيُّر زوجته فاطمة ما بين ‏الطلاق والزوجية، خوفا من أن تكون الأميرة التي تربت في رغد العيش، حزينة من حياة الزهد ‏معه، وراغبة في ما كانت عليه من رفاهية زمن والدها وأخويها ، وخلال السنوات الأولى من ‏زواجهما، فقبلت البقاء في عصمته، لأنها أحبتهُ .‏
وكان يحرص على عدم تبذير أموال بيت مال المسلمين حتى أنه كان يقرأ القرآن على ضوء ‏شمعة حتى لا يأخذ ‏ثمن وقود الإنارة من بيت المال لإنارة القنديل ومما يروى عنه أنه قال ‏لزوجته فاطمة، ابنة الخليفة التي أورثها أبوها ‏الحلي:‏
‏”اختاري إمّا أن تردّي حليك إلى بيت المال وإمّا أن تأذني لي في فراقك”. فقالت: “بل أختارك”.‏
ومما يروى عنه ، انه أبطأ يوماً عن صلاة الجمعة قليلاً، فعوتب في ذلك، فقال أمام الملأ : “إنما ‏انتظرت قميصاً غسلتُه ‏أن يجفّ”، وقد خفَّت في عهده مكائد الشيعة، وثورات الخوارج، فقال ‏بعضهم ، ولالله، لن نعارض ملكا، يمشي في الأسواق، ويُحادِثُ الفقراء والفلاحين والحرفيين، ‏ويعانق الأطفال والمعاقين وذوي الحاجات الخاصة، ويعمل على جبر ضرر ماضي بني مروان.‏

وعلى كل حال، فقد‏ كان عمر بن عبد العزيز عادلاً حتى إن الناس سموه بالخليفة العادل “الخليفة ‏الراشدي الخامس” فكثرت الحكايات التي وصلت لحدود الكرامات عن عصره وحكمه، فقد أكثر ‏من زجر لصوص المال العام، والمخالفين والمتطاولين على هيبة الدولة، وأنشأ ثقافة أساسها ‏التسامح بين الأديان والأعراق التي كانت تعج بهم رقعة ملكه، من عرب وأمازيغ وأقباط وروم ‏وسريان وتركمان وفرس وديلم وأكراد وصقالبة وأحباش ومختلف القوميات ، فكان إنصافه ‏وعدله وحب الناس له ، أساسا لحكمه. كما أنه عرف بجماله وتقشفه، وباتّباعه سياسة التسامح ‏والحنكة وحسن التدبير حتى مع أعدائه الداخليين والخارجيين ‏وأعداء بني أمية.‏
وكان قد جرّد بني أمية من أكثر امتيازاتهم الخاصة، فطلبوا منه ، خلال مفاوضات ماراطونية ‏إستغرقت شهور إعادتها لهم فرفض. فدسّوا له السم بطئ المفعول، أحس بتداعياته الخطيرة، في ‏زيارته لدير سمعان من أرض المعرة في الشام ، فأرسل له ملك الروم رئيس أساقفته ليعالجه، ‏فرفض ذلك، واستدعى المتّهم بسمه، وسأله: “ما ‏حملك على ما صنعت ؟ “قال: “خُدِعْتُ ‏وغرِّرْتُ” فقال عمر: “خُدعَ وغُرَّ… خَلُّوه”، وتركه حراً، ولم يعاقبه فيما يروي الرواة ويؤكده أكثر المؤرخين .‏
وكذلكـ مات الخليفة عمر بن عبد العزيز، وإنتقل إلى الرفيق الأعلى، وكان قد حكم مدة سنتين ‏وأربعة اشهر وعدة أيام… ولو امتدّ العمر بالخليفة الصالح مدة ‏كافية من الزمن، فلربما كان ‏استطاع إصلاح أحوال الدولة الأموية وإعادتها إلى ثوابت الحكم الراشدي القائم على التسامح ‏والإختلاف ، وعلى حماية المواطنات والمواطنين والحقوق والواجبات ، لكنّ سياسة ودسائس ‏البلاط الأموي كانت تتعارض وسياسته فسارعوا إلى التخلّص منه بالسم.‏
وطبيعيٌّ، فللنسب و السلالة الأصيلة تأثير كبير في تكوين النساء والرجال على حد سواء ، تنتج ‏آثارها الناضجة ‏الطيبة إذا استقامت على أمر الإسلام ونهجه، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه ‏جد عمر بن ‏عبد العزيز لأمه رضي الله عنهم، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي زوج ‏ابنه ‏عاصما من الفتاة الهلالية التي أبت غش اللبن في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ‏وقد ‏ورث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن جده ابن الخطاب كثيراً من شمائله من ‏إيثار الحق ‏ومناصرة العدل، والعفة والورع والتقوى والجرأة في الحق. ‏
فــأبوه هو الأمير عبد العزيز بن مروان رضي الله عنه والي مصر المتوفى في جمادى الأولى سنة ‏‏86 ‏هـ وعمه الخليفة عبد الملك بن مروان رضي الله عنه أحد كبار فقهاء المدينة المتوفى ‏في شوال ‏سنة 86 هـ، وجده من أبيه مروان بن الحكم رضي الله عنه (64 – 65هـ) شيخ ‏بني أمية وقريب ‏عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. ‏
ومع كل ذلكــ ، فإن الخليفة عمر بن عبد العزيز هو من أبناء عمومة الصحابي الجليل كاتب وحي ‏رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (41 – 60 هـ) ومؤسس ‏الدولة الأموية. ‏
أما جدته من أمه فتاة قبيلة بني هلال التي أبت غش اللبن في عهد عمر بن الخطاب، لأن الله ‏يراها، ‏وهي زوجة عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وابنتها أم عاصم زوجة عبد ‏‏العزيز بن مروان وأم عمر بن عبد العزيز هي أم عاصم رضي الله عنهم. ‏
وقد كان عمر بن عبد العزيز قبل استخلافه، أميرا وابن أمير، تربى في كنف الملكـ وفي رفاهيته ، ومن سلالة الأتقياء الطاهرين، فصار ‏‏الدم الطاهر الكريم والجوهر النقي الأصل الطيب متمثلاً كله فيه. ‏
وقد رأى رجل من الصالحين في المنام ليلة ولد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن مناديا بين ‏السماء و ‏الأرض ينادي “أتاكم اللين والدين وإظهار العمل الصالح في المصلين فنزل فكتب في ‏‏الأرض ع.م.ر”. ‏
فقد ولد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه 63 هـ، وهي السنة التي ماتت فيها ميمونة زوج ‏النبي ‏صلى الله عليه وسلم (10)، ويقال كان مولده ‏بمصر،في سنة 61 هـ ، وهي السنة التي قتل فيها ‏سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه وقيل سنة 63 هـ وقيل سنة 59 هـ. ‏
وأكد آخرون أن عمر ولد بحلوان، وهي منطقة حاليا ضمن المجال الحضري للقاهرة، وكان ‏بوجه عمر شجةٌ خفيفة ، فقد ضربته فرس – فيما رواه الطبري وإبن عساكر – في جبهته وهو ‏طفل صغير ‏فجعل أبوه الأمير عبد العزيز يمسح الدم عن جبينه ويقول وفق نبوءة “والله، لأرجو ‏أن تكون يا بني أشج بني أمية، الذي يملؤها عدلا، و والله يا بني إني لسعيد بكــ وبهذه الشجة .‏
وقد ذهب إبن عساكر والواقدي وإبن قتيبة وإبن عبد البر ، أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله ‏عنه كان يقول “من ولدي رجل بجبينه شجة يملأ الأرض ‏عدلا”، فصدق ظن أبيه فيه، فكان هو ‏عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
‏ ومهما يكن ، فإن عمر بن عبد العزيز منذ نعومة أظفاره، حرص والده على أن ينشأ ولده على ‏الصلاح والاستقامة، وعلى فنون الفروسية والحرب، والرياضة من رماية وسباحة وعدو وتسلق ‏للأعالي من الجبال والبواسق من النخيل كما كان شائعا لدى أطفال عصره ، و فأختار له مدينة ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كبيئة خصبة سيترعرع فيها الأمير الصغير ، حيث كان ‏يعيش ‏بعض من بقي من صحابة إمام الهدى “ص” رضي الله عنهم. ‏
عندما أراد عبد العزيز بن الحكم إخراج ابنه عمر رضي الله عنه معه إلى مصر من الشام ‏وهو ‏حديث السن طلب عمر منه أن يرسله إلى المدينة رغبة في العلم والأدب، فأرسله أبوه ‏إلى المدينة ‏ومعه الخدام، فقعد مع مشايخ قريش و فقهائها فتأدب بآدابهم، وتجنب بعض ملاهي شبابهم ‏ومازال ‏ذلك دأبه حتى أشتهر ذكره وذاع صيته. ‏
‏ ومهما يكن ، فقد كان الخليفة عمر تابعياً جليلاً حيث قال فيه أحمد بن حنبل رضي الله عنه “لا ‏أدرى قول أحد من ‏التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز”، وقد حفظ الأمير عمر القرآن ‏الكريم وهو صغير، وكان صالح بن كيسان رضي الله عنه معلمه، وقد قال في حقه هذا الفقيه “ما ‏‏عرفتُ أحدا الله أعظم في عقله من عمر هذا الغلام”، وحدث أن عمر قد تأخر عن صلاة الجماعة ‏‏يوماً، فقال له بن كيسان “ما شغلك؟ فقال: كانت مرجلتي تسكن شعري، فقال له صالح : ياللعجب، ‏قدَّمتَ أيها الأمير تزيين شعركـ أسبق من الصلاة ؟ فكتب صالح إلى أبيه الأمير عبد العزيز وكان ‏واليا على مصر، يخبره بما كان من الأمير عمر ، فبعث أبوه فارسا من جنده فلم ‏يكلمه هذا ‏الفارس حتى حلق كل شعر رأسه.‏
وكان الأمير عمر عبد العزيز قبل الخلافة على قدم الصلاح، إلا أنه كان يبالغ في التنعم،فكان ‏يشتري أغلى الثياب وأغلى العطور، ويأكل أجود الأطعمة، حريصا على أناقته وزينته ، فكان ‏منافسوه في حب فاطمة بنت الخليفة عبد الملكــ ، يعيبون عليه الإفراط في التنعم والاختيال في ‏مشيته في زقاق المدينة المنورة، وقد أجمع سكان المدينة المنورة، أن من أراد أن يتعطر فليعانق ‏عمر بن عبد العزيز . ‏
ولكن هذا تغير عند توليه ولاية المدينة ثم ظهر ذلك جليا عند توليه أمانة الخلافة على بلاد ‏‏المسلمين. ‏
‏ فقد مات والد عمر بن عبد العزيز فأخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وجعله ‏كمنزلة ‏أبنائه ، وباركـ حبه لابنته فاطمة، ووافق على زاجها منه ، فكانت بدورها مثالا للأميرة الرائعة ‏والمرأة المسلمة والزوجة الصالحة وقدوة ‏مضيئة لمن أراد أن يقتدي بسيدة فاضلة. ‏
‏ثم توفي الخلفة عبد الملكـ رضي الله عنه ، عم عمر بن عبد العزيز ، فحزن ‏عمر حزنا شديداً ‏عليه لأنه كان له بمنزلة الأب واليد الحنونة التي غمرته بالمحبة والسرور، ‏فتولى الوليد بن عبد ‏الملك رضي الله عنه الخلافة وكانت دار الخلافة آن ذاك بدمشق، فعامل ‏الوليد عمر بن عبد ‏العزيز بما كان أبوه يعامله به وولاه إمرة المدينة ومكة والطائف من ‏سنة 86 هـ إلى سنة 93 هـ ‏، فأقام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه للناس الحج سنة 89 ‏هـ و90 هـ، وفي فترة ولايته بنى ‏مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه بأمر من الوليد، ‏فدخل فيه القبر الشريف للنبي صلى الله ‏عليه وسلم. ‏
وقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وكان إذا وقع أمر مشكل جمع فقهاء ‏المدينة، وقد ‏عين عشرةً منهم رضي الله عنهم، ولا يقطع أمراً بدونهم، وكان لا يخرج عن ‏قول سعيد بن ‏المسيب رضي الله عنه، وقد كان سعيد لا يأتي أحداً من الخلفاء، وكان يأتي ‏على عمر بن عبد ‏العزيز وهو بالمدينة واليا عليها، قبل إعدامه من طرف الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق، ‏بإمر من الدولة المركزية في دمشق . ‏
وقال الصحابي الجليل خادم صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك رضي الله عنه “ما صليت ‏وراء ‏إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى في إشارة الأمير عمر بن عبد ‏‏العزيز، فقد كان الأمير عمر بن عبد العزيز يتم السجود ويخفف القيام والقعود، دون مبالغة ولا ‏إفراط ، كما يفعل البعض اليوم .‏
وقد أثنى عليه من عاصره في المدينة من علماء وتابعين وفقهاء لما لمسو في عمر من ‏إخلاص ‏وتفاني لخدمة دين الله ، دون غلو ولا تطرف، ومن حمل لأمانة ولاية المدينة مجاليا وقطاعيا ‏على أتم وجه. ‏
‏ فقد قال من رأووا عمر بن عبد العزيز واليا على المدينة المنورة، أنه كان أحسن الناس وجها ‏وقامة ولباساً ومن أطيب الناس ريحاً ومن ‏أخيل الناس مشية، وأنه كان يعطر حتى أحذيته وخفافه ‏وشباشبه بالمسك والعطور ، وأنه كان يمشي مشية الرهبان”. ‏
‏ وحدث أن توفي الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 96 هـ، وبويع بالخلافة لسليمان رضي الله ‏عنه، وتولى عمر ‏بن عبد العزيز بنفسه أخذ البيعة لسليمان، فضم سليمان إليه عمرَ مستشاراً ‏ينصحُهُ ويشير ‏عليه، ثم ولاه على المدينة مرةً ثانية، وكانت تجارب عمر بن عبد العزيز رضي ‏الله عنه في ‏ولاية المدينة، وقربه من الخلفاء، ناصحاً أو مستشاراً، مفيدة في مراقبة الأوضاع ‏الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والبيئية عن ‏كثب، وفي الإعداد لخلافته لاحقا ، وقيامة بحركته ‏الإصلاحية الكبرى في جميع البلاد ‏الإسلامية، من الأندلس إلى حدود الصين وسهول البنجاب ‏في الهند . ‏
فقد كان لعمر مع أمير المؤمنين سليمان مواقف نصح وارشاد وتذكير بشدة الحساب يوم القيامة وفي نفس ‏الوقت كان ‏سليمان يقدر عمر ويحرص على ملازمته له أشد ما تكون الملازمة، إلا أن هذا التقدير لم ‏يصل ‏إلا حد التفكير بأن يعهد لخلافته من بعده، وإنما كان تفكيره في تولية أحد أولاده، لولا ‏اقتراح ‏الفقيه الصالح والحكيم العارف رجاء بن حيوة الذي كان وزير صدق للأمويين.‏
ورُويَ عن رجاء بن حيوة التابعي والعالم الجليل والوزير الصادق أنه قال : ” لما تولى عمر بن ‏عبدالعزيز الخلافة وقف بنا ‏خطيبا فحمد الله ثم أثنى عليه، وقال في جملة ما قال : يا رب إني ‏كنت أميرا فطمعت ‏بالخلافة فنلتها، يا رب إني أطمع بالجنة اللهم بلغني الجنة. قال رجاء: فبكى ‏الناس بالمسجد ، فكأني حتى بجدران المسجد تبكي معنا‎”‎‏.‏


وفي عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إنتشر العلم وكثرت المساجد التي تعلم القرآن، وفي عهده القصير أوقف ‏الحرب مع ‏جيرانه ووسع العمل داخل دولته ( البنية التحتية للدولة ) كالشوارع والطرقات ‏والممرات الآمنة ‏و السواقي وحفر الآبار وبنى دور المياه ودور الطعام (التكايا) و المدارس ونسخ الكتب ‏والترجمة ‏والتعريب ونقل العلم وشجع الإستفادة من علوم وتجارب الأمم من رومان وفرس ‏وهنود وصينيين وغيرهم ، ونظر إلى الأمم المتحضرة والغير المهدد لدولته ، بسلم دون حرب ‏وسعى في الأعمال ‏الخيرة حتى دعاه المؤرخون بخامس الخلفاء الراشدين.‏
وكان عمر بن عبد العزيز واحدًا ممن دخلوا التاريخ بأعماله العظيمة وإدارته العادلة للدولة، حتى ‏‏تجدد الأمل في النفوس أنه بالإمكان عودة حكم الخلفاء الراشدين واقعًا ملموسًا لا قصصًا تُروى ‏‏ولا أماني تُطلب ولا خيالاً يُتصوَّر، بل حقيقة يشهدها الناس، وينعمون بخيرها.‏
واحتاج عمر بن عبد العزيز لإحداث هذا التغيير في حياة الأمة إلى ثلاثين شهرًا، لا إلى سنوات ‏‏طويلة، ولهذا دلالته ؛ حيث إن الأمة كانت حية نابضة بالإيمان، مليئة بالنساء والرجال الذين ‏يجمعون ‏إلى جانب الصلاح، مختلف مكامن القدرة والكفاءة، ولو كانت الأمة مُجدبة أو متطرفة ‏أو غير مؤمنة بالإنفتاح وبقوة الحضارات الأخرى ، لما استطاع عمر أن ‏يقوم بهذا الإصلاح ‏العظيم في هذه الفترة القصيرة من الوقت .‏
وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز إداريًا عظيمًا، إلى جانب صلاحه وتقواه، وزهده وورعه، وهو ‏ما امتلأت به كتب ‏السِّيَر والتراجم حتى كادت تطغى هذه الأخبار على ملامح شخصيته الثرية ‏بجوانبها الأخرى.‏
وقبل أن يلي عمر بن عبد العزيز الخلافة تمرّس بالإدارة واليًا وحاكمًا، واقترب من صانعي ‏‏القرار، ورأى عن كثب كيف تُدار الدولة، وخبر الأعوان والمساعدين ؛ فلما تولى الخلافة كان ‏‏لديه من عناصر الخبرة والتجربة ما يعينه على تحمل المسؤولية ومباشرة مهام الدولة، وأضاف ‏‏إلى ذلك أن ترفَّع عن أبهة الحكم ومباهج السلطة، وحرص على المال العام، وحافظ على الجهد ‏‏والوقت، ودقَّق في اختيار الولاة، وكانت لديه رغبة صادقة في تطبيق العدل.‏
وخلاصة القول أن عمر بن عبد العزيز لم يكن رجل زهد وولاية وجد نفسه فجأة خليفة؛ بل كان ‏‏رجل دولة استشعر الأمانة، وراقب الله فيما أُوكل إليه، وتحمل مسؤولية دولته الكبيرة بجدٍّ ‏‏واجتهاد؛ فكان منه ما جعل الناس ينظرون إليه بإعجاب وتقدير.‏
وكان يختار ولاته بعد تدقيق شديد، ومعرفة كاملة بأخلاقهم وقدراتهم؛ فلا يلي عنده منصبًا إلا من ‏‏رجحت كفته كفاءة وعلمًا وإيمانًا، وحسبك أن تستعرض أسماء من اختارهم لولاياته؛ فتجد فيهم ‏‏العالم الفقيه، والسياسي البارع، والقائد الفاتح، من أمثال أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ‏‏أمير المدينة وقاضيها، والجراح بن عبد الله الحكيمي، أمير البصرة، وكان قائدًا فاتحًا، وإداريًا ‏‏عظيمًا، وعابدًا قائدًا، والسمح بن مالك أمير الأندلس، وكان قائدًا فذًا، استُشهد على أرض ‏‏الأندلس، وكان باقي ولاته على هذه الدرجة من القدرة والكفاءة.‏
وكان عمر لا يكتفي بحسن الاختيار في الولاة فقط بعد دراسة وتجربة، بل كان يتابع ويراقب، لكن مراقبته لم ‏‏تكن مراقبة المُتَّهِمُ، بل كان يراقب تطبيق السياسة العامة التي وضعها للدولة.‏
ولم تطل حياة هذا الخليفة العظيم الذي أُطلق عليه “خامس الخلفاء الراشدين”، فتوفي وهو دون ‏‏الأربعين من عمره، قضى منها سنتين وبضعة أشهر في الخلافة، ولقي ربه في 24 ‏رجب ‏‏101هـ الموافق لــ 6 من فبراير720م ، وقد رأه إبن عمه القائد الأموي مسلمة بن عبد الملك، ‏وهو مسجى في نعشه، ووجهه ينضخ شبابا ودمالا، فقال : رحمكـ الله يا أمير المؤمنين، فقد ‏أحسنت وعدلت، وتركتَ لنا في الصالحين ذِكـْـرا ..‏
أما وليّ العهد يزيد بن عبد الملك، فقد ذكر المؤرخون ، أنه ابتعد عن سياسة عمر بن عبد العزيز ‏وعزل الولاة الصالحين، ‏وقسا على ‏الأمازيغ والأكراد وعذّب آل موسى بن نصير وأعاد سياسة ‏الحجاج والبطش في الناس، ‏فثار ضدّه الخوارج وباعوا نساء بني مهلّب، فقال العديد ممن عاصر ‏هذه الفاجعة الإنسانية : “ضحّى ‏بنو أميّة يوم كربلاء بالدين ويوم الـعقير بالكرامة والحُرُمات “.‏

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.