ولد عمر بن عبد العزيز في حلوان بمصر أميرا ، وقيل حسب بعض المؤرخين في المدينة، من أبيه عبد العزيز بن مروان بن الحكم وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وحفظ القرآن في صغره وتفقَّهَ في الدين على أيادي فقهاء وعلماء المدينة المنورة، وقد توفي والده الأمير عبد العزيز بن مروان ، وهو لايزال حدثا في السن ، فاستدعاه عمه الخليفة عبد الملك بن مروان إلى دمشق فأقام عنده وزوّجه من ابنته الأميرة فاطمة. ولقد أحبت هذه الأميرة فاطمة، الأمير الشاب، وأغرمت به لوسامته وأناقته، ولذكائه وتقديره لأهل الفضل والعلم، وعشقه للعطور وللبذخ ، وفضلته على منافسيه في حبها من شباب بني أمية وشباب الثقفيين وغير الثقفيين من العائلات الموالية لبني أمية. وقد تولّى الأمير عمر بن عبد العزيز ولاية المدينة، في خلافة عمه عبد الملكـ بن مروان، ثم عزل عنها في خلافة الوليد بن عبد الملكـ ، لأن الناس كانوا يفرون من العراق هربا من بطش الحجاج بن يوسف الثقفي نحو المدينة، فيجهرون بإنتقاده دون أن تمسهم شرور من إدارة عمر،وقد كان الخليفتين عبد الملكـ والوليد لا يطيقان أي إنتقادات في أبي محمد ، الحجاج بن يوسف، ثم استوزره سليمان، وقرَّبه وجعله من مستشاريه، وقد ولاه الخليفة سليمان بن عبد الملكـ ، بولاية عهده ، فبويع له بعد وفاته في مسجد دمشق سنة 99 هجرية، الموافق لسنة 717 ميلادية . وقد إتفق معظم المؤرخين من عرب وأجانب ، أن إستخلاف عمر بن عبد العزيز ، كان الحل الوسط لحل النزاعات داخل البيت الأموي ، والرامي إلى حفظ إستمرارية ملك بني أمية. وكان أول ما قام به الخليفة عمر بن عبد العزيز، أن أوقف الحروب الخاسرة ضد البيزنطيين، التي ظلت تستنزف خزينة الدولة، دون فتح للقسطنطينية أو فائدة إستراتيجية تُذكر، وجهد في محاولة مصالحة الموالي الذين عانوا من سياسة الخلفاء الأمويين السابقين العروبية، تحقيقا منه للسلم الإجتماعي مع الأقليات، فصار الموالي في زمنه يستطيعون الوصول إلى مناصب الدولة الرفيعة كالولاية للبلدان والقيادة لفيالق الجيوش وكراسي القضاء والإفتاء والكتابة في الدواوين وشؤون الحسبة وغيرها . وعمل عمر بن عبد العزيز على التقرب من آل البيت، فأمر بوقف سبّ الإمام الخليفة الراشد عليّ بن أبي طالب من على المنابر الأموية، وأعاد لبني هاشم أملاكهم، وخفّف الضرائب عن الموالي والفرس والمسيحيين واليهود والصابئة ، ورفع الخراج عمّن أسلم منهم ، وأنشأ هيئة لتعويض تعويض مصادرة كنيسة القديس يوحنا، و أعاد لهم كنيسة توما Thomas في دمشق. كان عمر بن عبد العزيز زاهداً فلم يقرب ما تركه الخلـفاء من قبله، عبد الملكـ وإبنيه الوليد وسليمان، وما عُرف له في التاريخ من ممتلكات عند استخلافه ، وقد خَيُّر زوجته فاطمة ما بين الطلاق والزوجية، خوفا من أن تكون الأميرة التي تربت في رغد العيش، حزينة من حياة الزهد معه، وراغبة في ما كانت عليه من رفاهية زمن والدها وأخويها ، وخلال السنوات الأولى من زواجهما، فقبلت البقاء في عصمته، لأنها أحبتهُ . وكان يحرص على عدم تبذير أموال بيت مال المسلمين حتى أنه كان يقرأ القرآن على ضوء شمعة حتى لا يأخذ ثمن وقود الإنارة من بيت المال لإنارة القنديل ومما يروى عنه أنه قال لزوجته فاطمة، ابنة الخليفة التي أورثها أبوها الحلي: ”اختاري إمّا أن تردّي حليك إلى بيت المال وإمّا أن تأذني لي في فراقك”. فقالت: “بل أختارك”. ومما يروى عنه ، انه أبطأ يوماً عن صلاة الجمعة قليلاً، فعوتب في ذلك، فقال أمام الملأ : “إنما انتظرت قميصاً غسلتُه أن يجفّ”، وقد خفَّت في عهده مكائد الشيعة، وثورات الخوارج، فقال بعضهم ، ولالله، لن نعارض ملكا، يمشي في الأسواق، ويُحادِثُ الفقراء والفلاحين والحرفيين، ويعانق الأطفال والمعاقين وذوي الحاجات الخاصة، ويعمل على جبر ضرر ماضي بني مروان.
وعلى كل حال، فقد كان عمر بن عبد العزيز عادلاً حتى إن الناس سموه بالخليفة العادل “الخليفة الراشدي الخامس” فكثرت الحكايات التي وصلت لحدود الكرامات عن عصره وحكمه، فقد أكثر من زجر لصوص المال العام، والمخالفين والمتطاولين على هيبة الدولة، وأنشأ ثقافة أساسها التسامح بين الأديان والأعراق التي كانت تعج بهم رقعة ملكه، من عرب وأمازيغ وأقباط وروم وسريان وتركمان وفرس وديلم وأكراد وصقالبة وأحباش ومختلف القوميات ، فكان إنصافه وعدله وحب الناس له ، أساسا لحكمه. كما أنه عرف بجماله وتقشفه، وباتّباعه سياسة التسامح والحنكة وحسن التدبير حتى مع أعدائه الداخليين والخارجيين وأعداء بني أمية. وكان قد جرّد بني أمية من أكثر امتيازاتهم الخاصة، فطلبوا منه ، خلال مفاوضات ماراطونية إستغرقت شهور إعادتها لهم فرفض. فدسّوا له السم بطئ المفعول، أحس بتداعياته الخطيرة، في زيارته لدير سمعان من أرض المعرة في الشام ، فأرسل له ملك الروم رئيس أساقفته ليعالجه، فرفض ذلك، واستدعى المتّهم بسمه، وسأله: “ما حملك على ما صنعت ؟ “قال: “خُدِعْتُ وغرِّرْتُ” فقال عمر: “خُدعَ وغُرَّ… خَلُّوه”، وتركه حراً، ولم يعاقبه فيما يروي الرواة ويؤكده أكثر المؤرخين . وكذلكـ مات الخليفة عمر بن عبد العزيز، وإنتقل إلى الرفيق الأعلى، وكان قد حكم مدة سنتين وأربعة اشهر وعدة أيام… ولو امتدّ العمر بالخليفة الصالح مدة كافية من الزمن، فلربما كان استطاع إصلاح أحوال الدولة الأموية وإعادتها إلى ثوابت الحكم الراشدي القائم على التسامح والإختلاف ، وعلى حماية المواطنات والمواطنين والحقوق والواجبات ، لكنّ سياسة ودسائس البلاط الأموي كانت تتعارض وسياسته فسارعوا إلى التخلّص منه بالسم. وطبيعيٌّ، فللنسب و السلالة الأصيلة تأثير كبير في تكوين النساء والرجال على حد سواء ، تنتج آثارها الناضجة الطيبة إذا استقامت على أمر الإسلام ونهجه، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه جد عمر بن عبد العزيز لأمه رضي الله عنهم، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي زوج ابنه عاصما من الفتاة الهلالية التي أبت غش اللبن في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد ورث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن جده ابن الخطاب كثيراً من شمائله من إيثار الحق ومناصرة العدل، والعفة والورع والتقوى والجرأة في الحق. فــأبوه هو الأمير عبد العزيز بن مروان رضي الله عنه والي مصر المتوفى في جمادى الأولى سنة 86 هـ وعمه الخليفة عبد الملك بن مروان رضي الله عنه أحد كبار فقهاء المدينة المتوفى في شوال سنة 86 هـ، وجده من أبيه مروان بن الحكم رضي الله عنه (64 – 65هـ) شيخ بني أمية وقريب عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. ومع كل ذلكــ ، فإن الخليفة عمر بن عبد العزيز هو من أبناء عمومة الصحابي الجليل كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (41 – 60 هـ) ومؤسس الدولة الأموية. أما جدته من أمه فتاة قبيلة بني هلال التي أبت غش اللبن في عهد عمر بن الخطاب، لأن الله يراها، وهي زوجة عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وابنتها أم عاصم زوجة عبد العزيز بن مروان وأم عمر بن عبد العزيز هي أم عاصم رضي الله عنهم. وقد كان عمر بن عبد العزيز قبل استخلافه، أميرا وابن أمير، تربى في كنف الملكـ وفي رفاهيته ، ومن سلالة الأتقياء الطاهرين، فصار الدم الطاهر الكريم والجوهر النقي الأصل الطيب متمثلاً كله فيه. وقد رأى رجل من الصالحين في المنام ليلة ولد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن مناديا بين السماء و الأرض ينادي “أتاكم اللين والدين وإظهار العمل الصالح في المصلين فنزل فكتب في الأرض ع.م.ر”. فقد ولد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه 63 هـ، وهي السنة التي ماتت فيها ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (10)، ويقال كان مولده بمصر،في سنة 61 هـ ، وهي السنة التي قتل فيها سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه وقيل سنة 63 هـ وقيل سنة 59 هـ. وأكد آخرون أن عمر ولد بحلوان، وهي منطقة حاليا ضمن المجال الحضري للقاهرة، وكان بوجه عمر شجةٌ خفيفة ، فقد ضربته فرس – فيما رواه الطبري وإبن عساكر – في جبهته وهو طفل صغير فجعل أبوه الأمير عبد العزيز يمسح الدم عن جبينه ويقول وفق نبوءة “والله، لأرجو أن تكون يا بني أشج بني أمية، الذي يملؤها عدلا، و والله يا بني إني لسعيد بكــ وبهذه الشجة . وقد ذهب إبن عساكر والواقدي وإبن قتيبة وإبن عبد البر ، أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول “من ولدي رجل بجبينه شجة يملأ الأرض عدلا”، فصدق ظن أبيه فيه، فكان هو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ومهما يكن ، فإن عمر بن عبد العزيز منذ نعومة أظفاره، حرص والده على أن ينشأ ولده على الصلاح والاستقامة، وعلى فنون الفروسية والحرب، والرياضة من رماية وسباحة وعدو وتسلق للأعالي من الجبال والبواسق من النخيل كما كان شائعا لدى أطفال عصره ، و فأختار له مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كبيئة خصبة سيترعرع فيها الأمير الصغير ، حيث كان يعيش بعض من بقي من صحابة إمام الهدى “ص” رضي الله عنهم. عندما أراد عبد العزيز بن الحكم إخراج ابنه عمر رضي الله عنه معه إلى مصر من الشام وهو حديث السن طلب عمر منه أن يرسله إلى المدينة رغبة في العلم والأدب، فأرسله أبوه إلى المدينة ومعه الخدام، فقعد مع مشايخ قريش و فقهائها فتأدب بآدابهم، وتجنب بعض ملاهي شبابهم ومازال ذلك دأبه حتى أشتهر ذكره وذاع صيته. ومهما يكن ، فقد كان الخليفة عمر تابعياً جليلاً حيث قال فيه أحمد بن حنبل رضي الله عنه “لا أدرى قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز”، وقد حفظ الأمير عمر القرآن الكريم وهو صغير، وكان صالح بن كيسان رضي الله عنه معلمه، وقد قال في حقه هذا الفقيه “ما عرفتُ أحدا الله أعظم في عقله من عمر هذا الغلام”، وحدث أن عمر قد تأخر عن صلاة الجماعة يوماً، فقال له بن كيسان “ما شغلك؟ فقال: كانت مرجلتي تسكن شعري، فقال له صالح : ياللعجب، قدَّمتَ أيها الأمير تزيين شعركـ أسبق من الصلاة ؟ فكتب صالح إلى أبيه الأمير عبد العزيز وكان واليا على مصر، يخبره بما كان من الأمير عمر ، فبعث أبوه فارسا من جنده فلم يكلمه هذا الفارس حتى حلق كل شعر رأسه. وكان الأمير عمر عبد العزيز قبل الخلافة على قدم الصلاح، إلا أنه كان يبالغ في التنعم،فكان يشتري أغلى الثياب وأغلى العطور، ويأكل أجود الأطعمة، حريصا على أناقته وزينته ، فكان منافسوه في حب فاطمة بنت الخليفة عبد الملكــ ، يعيبون عليه الإفراط في التنعم والاختيال في مشيته في زقاق المدينة المنورة، وقد أجمع سكان المدينة المنورة، أن من أراد أن يتعطر فليعانق عمر بن عبد العزيز . ولكن هذا تغير عند توليه ولاية المدينة ثم ظهر ذلك جليا عند توليه أمانة الخلافة على بلاد المسلمين. فقد مات والد عمر بن عبد العزيز فأخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وجعله كمنزلة أبنائه ، وباركـ حبه لابنته فاطمة، ووافق على زاجها منه ، فكانت بدورها مثالا للأميرة الرائعة والمرأة المسلمة والزوجة الصالحة وقدوة مضيئة لمن أراد أن يقتدي بسيدة فاضلة. ثم توفي الخلفة عبد الملكـ رضي الله عنه ، عم عمر بن عبد العزيز ، فحزن عمر حزنا شديداً عليه لأنه كان له بمنزلة الأب واليد الحنونة التي غمرته بالمحبة والسرور، فتولى الوليد بن عبد الملك رضي الله عنه الخلافة وكانت دار الخلافة آن ذاك بدمشق، فعامل الوليد عمر بن عبد العزيز بما كان أبوه يعامله به وولاه إمرة المدينة ومكة والطائف من سنة 86 هـ إلى سنة 93 هـ ، فأقام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه للناس الحج سنة 89 هـ و90 هـ، وفي فترة ولايته بنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه بأمر من الوليد، فدخل فيه القبر الشريف للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وكان إذا وقع أمر مشكل جمع فقهاء المدينة، وقد عين عشرةً منهم رضي الله عنهم، ولا يقطع أمراً بدونهم، وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب رضي الله عنه، وقد كان سعيد لا يأتي أحداً من الخلفاء، وكان يأتي على عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة واليا عليها، قبل إعدامه من طرف الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق، بإمر من الدولة المركزية في دمشق . وقال الصحابي الجليل خادم صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك رضي الله عنه “ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى في إشارة الأمير عمر بن عبد العزيز، فقد كان الأمير عمر بن عبد العزيز يتم السجود ويخفف القيام والقعود، دون مبالغة ولا إفراط ، كما يفعل البعض اليوم . وقد أثنى عليه من عاصره في المدينة من علماء وتابعين وفقهاء لما لمسو في عمر من إخلاص وتفاني لخدمة دين الله ، دون غلو ولا تطرف، ومن حمل لأمانة ولاية المدينة مجاليا وقطاعيا على أتم وجه. فقد قال من رأووا عمر بن عبد العزيز واليا على المدينة المنورة، أنه كان أحسن الناس وجها وقامة ولباساً ومن أطيب الناس ريحاً ومن أخيل الناس مشية، وأنه كان يعطر حتى أحذيته وخفافه وشباشبه بالمسك والعطور ، وأنه كان يمشي مشية الرهبان”. وحدث أن توفي الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 96 هـ، وبويع بالخلافة لسليمان رضي الله عنه، وتولى عمر بن عبد العزيز بنفسه أخذ البيعة لسليمان، فضم سليمان إليه عمرَ مستشاراً ينصحُهُ ويشير عليه، ثم ولاه على المدينة مرةً ثانية، وكانت تجارب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في ولاية المدينة، وقربه من الخلفاء، ناصحاً أو مستشاراً، مفيدة في مراقبة الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والبيئية عن كثب، وفي الإعداد لخلافته لاحقا ، وقيامة بحركته الإصلاحية الكبرى في جميع البلاد الإسلامية، من الأندلس إلى حدود الصين وسهول البنجاب في الهند . فقد كان لعمر مع أمير المؤمنين سليمان مواقف نصح وارشاد وتذكير بشدة الحساب يوم القيامة وفي نفس الوقت كان سليمان يقدر عمر ويحرص على ملازمته له أشد ما تكون الملازمة، إلا أن هذا التقدير لم يصل إلا حد التفكير بأن يعهد لخلافته من بعده، وإنما كان تفكيره في تولية أحد أولاده، لولا اقتراح الفقيه الصالح والحكيم العارف رجاء بن حيوة الذي كان وزير صدق للأمويين. ورُويَ عن رجاء بن حيوة التابعي والعالم الجليل والوزير الصادق أنه قال : ” لما تولى عمر بن عبدالعزيز الخلافة وقف بنا خطيبا فحمد الله ثم أثنى عليه، وقال في جملة ما قال : يا رب إني كنت أميرا فطمعت بالخلافة فنلتها، يا رب إني أطمع بالجنة اللهم بلغني الجنة. قال رجاء: فبكى الناس بالمسجد ، فكأني حتى بجدران المسجد تبكي معنا”.
وفي عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إنتشر العلم وكثرت المساجد التي تعلم القرآن، وفي عهده القصير أوقف الحرب مع جيرانه ووسع العمل داخل دولته ( البنية التحتية للدولة ) كالشوارع والطرقات والممرات الآمنة و السواقي وحفر الآبار وبنى دور المياه ودور الطعام (التكايا) و المدارس ونسخ الكتب والترجمة والتعريب ونقل العلم وشجع الإستفادة من علوم وتجارب الأمم من رومان وفرس وهنود وصينيين وغيرهم ، ونظر إلى الأمم المتحضرة والغير المهدد لدولته ، بسلم دون حرب وسعى في الأعمال الخيرة حتى دعاه المؤرخون بخامس الخلفاء الراشدين. وكان عمر بن عبد العزيز واحدًا ممن دخلوا التاريخ بأعماله العظيمة وإدارته العادلة للدولة، حتى تجدد الأمل في النفوس أنه بالإمكان عودة حكم الخلفاء الراشدين واقعًا ملموسًا لا قصصًا تُروى ولا أماني تُطلب ولا خيالاً يُتصوَّر، بل حقيقة يشهدها الناس، وينعمون بخيرها. واحتاج عمر بن عبد العزيز لإحداث هذا التغيير في حياة الأمة إلى ثلاثين شهرًا، لا إلى سنوات طويلة، ولهذا دلالته ؛ حيث إن الأمة كانت حية نابضة بالإيمان، مليئة بالنساء والرجال الذين يجمعون إلى جانب الصلاح، مختلف مكامن القدرة والكفاءة، ولو كانت الأمة مُجدبة أو متطرفة أو غير مؤمنة بالإنفتاح وبقوة الحضارات الأخرى ، لما استطاع عمر أن يقوم بهذا الإصلاح العظيم في هذه الفترة القصيرة من الوقت . وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز إداريًا عظيمًا، إلى جانب صلاحه وتقواه، وزهده وورعه، وهو ما امتلأت به كتب السِّيَر والتراجم حتى كادت تطغى هذه الأخبار على ملامح شخصيته الثرية بجوانبها الأخرى. وقبل أن يلي عمر بن عبد العزيز الخلافة تمرّس بالإدارة واليًا وحاكمًا، واقترب من صانعي القرار، ورأى عن كثب كيف تُدار الدولة، وخبر الأعوان والمساعدين ؛ فلما تولى الخلافة كان لديه من عناصر الخبرة والتجربة ما يعينه على تحمل المسؤولية ومباشرة مهام الدولة، وأضاف إلى ذلك أن ترفَّع عن أبهة الحكم ومباهج السلطة، وحرص على المال العام، وحافظ على الجهد والوقت، ودقَّق في اختيار الولاة، وكانت لديه رغبة صادقة في تطبيق العدل. وخلاصة القول أن عمر بن عبد العزيز لم يكن رجل زهد وولاية وجد نفسه فجأة خليفة؛ بل كان رجل دولة استشعر الأمانة، وراقب الله فيما أُوكل إليه، وتحمل مسؤولية دولته الكبيرة بجدٍّ واجتهاد؛ فكان منه ما جعل الناس ينظرون إليه بإعجاب وتقدير. وكان يختار ولاته بعد تدقيق شديد، ومعرفة كاملة بأخلاقهم وقدراتهم؛ فلا يلي عنده منصبًا إلا من رجحت كفته كفاءة وعلمًا وإيمانًا، وحسبك أن تستعرض أسماء من اختارهم لولاياته؛ فتجد فيهم العالم الفقيه، والسياسي البارع، والقائد الفاتح، من أمثال أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أمير المدينة وقاضيها، والجراح بن عبد الله الحكيمي، أمير البصرة، وكان قائدًا فاتحًا، وإداريًا عظيمًا، وعابدًا قائدًا، والسمح بن مالك أمير الأندلس، وكان قائدًا فذًا، استُشهد على أرض الأندلس، وكان باقي ولاته على هذه الدرجة من القدرة والكفاءة. وكان عمر لا يكتفي بحسن الاختيار في الولاة فقط بعد دراسة وتجربة، بل كان يتابع ويراقب، لكن مراقبته لم تكن مراقبة المُتَّهِمُ، بل كان يراقب تطبيق السياسة العامة التي وضعها للدولة. ولم تطل حياة هذا الخليفة العظيم الذي أُطلق عليه “خامس الخلفاء الراشدين”، فتوفي وهو دون الأربعين من عمره، قضى منها سنتين وبضعة أشهر في الخلافة، ولقي ربه في 24 رجب 101هـ الموافق لــ 6 من فبراير720م ، وقد رأه إبن عمه القائد الأموي مسلمة بن عبد الملك، وهو مسجى في نعشه، ووجهه ينضخ شبابا ودمالا، فقال : رحمكـ الله يا أمير المؤمنين، فقد أحسنت وعدلت، وتركتَ لنا في الصالحين ذِكـْـرا .. أما وليّ العهد يزيد بن عبد الملك، فقد ذكر المؤرخون ، أنه ابتعد عن سياسة عمر بن عبد العزيز وعزل الولاة الصالحين، وقسا على الأمازيغ والأكراد وعذّب آل موسى بن نصير وأعاد سياسة الحجاج والبطش في الناس، فثار ضدّه الخوارج وباعوا نساء بني مهلّب، فقال العديد ممن عاصر هذه الفاجعة الإنسانية : “ضحّى بنو أميّة يوم كربلاء بالدين ويوم الـعقير بالكرامة والحُرُمات “.