الغساني سفير السلطان مولاي إسماعيل : أول مغربي يزور ‏إسبانيا بعد سقوط غرناطة ‏

محمــد الـقـنـور : ‏
عندما شرع محمد بن عبد الوهاب الأندلسي الفاسي ، الملقب بالغساني في رحلته إلى أسبانيا ، سفيرا ‏لسلطان السلاطين مولاي إسماعيل بن الإمام مولاي علي الشريف ، والذي حكم المغرب بقبضة من حديد ‏ما بين سنتي 1672 1727 ميلادية ، كان ينتقل من حضارة إلى حضارة آخرى، وكان الغساني ، رجل ‏المخزن الإسماعيلي من أوائل المغاربة، ممن سافروا إلى أوروبا، وشاهدوا آثار إندحار الحضارة ‏الإسلامية في الأندلس، فقد كانت غرناطة آخر معاقل الإسلام قد سقطت تحت سنابك جيوش الملك فرناندو ‏والملكة إيزابيلا سنة 1492، ‏
كانت دولة المغرب الكبير قد انهارت مع زوال سطوة الموحدين. وأصبحت هناك ثلاثة كيانات كبرى تشبه ‏الموجودة حاليا، ولكن كل كيان منها كان منقسما إلى مدن وإقليم أصغر. وفي الوقت الذي كانت فيه أوربا ‏تضم أشلاءها وتواجه القرن السابع عشر كدول كبرى متوحدة تسعى لاكتشاف العالم واحتلاله كان العالم ‏العربي يواصل التفتت ليتحول إلى دول بهية وسنية ومنصورة وكل ما شاءت من صفات لا تملك منها ‏شيئا، أقاليم بلا شخصية تنزلق تدريجيا تحت نير الحكم العثماني‎.‎
كانت دولة السلطان مولاي إسماعيل ، قوية حكما وتدبيرا،كانت جندا منظما ومدافع منصوبة، قلاعا ‏وحصونا مشيدة، كانت سيفا وقلما، وكان الغساني أحد رجالاتها الأفذاذ،ضمن أبناء المخزن الإسماعيلي، ‏ومن جماعة الوزراء والحجاب الذين يحتلون أرفع المناصب وممن يشيرون على السلطان القوي القابض ‏على زمام الأمور في المغرب الخارج من الفوضى ، بعد نهاية حكم السعديين .‏
فقد إبتدأ الغساني حياته المهنية والفكرية في أول الأمر ، كاتبا في البلاط الإسماعيلي ، وقد أهّله منصبه و ‏مهارته وسرعة بديهته وحسن حظه، في أن يكون من حلقة الجماعة الأولى، ومن أن يتبوأ كرسي ‏الوزارة، ثم مهام السفارة إلى إسبانيا، مرورا بمنطقة الأندلس المنكوبة .‏
‎ ‎وقد شهد عصر الغساني تبلور الصراع بين أوربا المسيحية في الشمال، وبين المغاربة المسلمين من ‏عرب وأمازيغ وموريسكيين وحسانيين في الجنوب، على إختلاف روافدهم الثقافية ، ورغم مرور سنوات ‏طويلة على سقوط الأندلس فلم يكن أحد من هؤلاء المغاربة قد نسي ثأره من الإسبان، الذين حولوا مساجد ‏الأندلس لكنائس، وسيطروا على قصورها وقلاعها .‏

 

حلم من أجل العودة

ولقد زاد من حدة هذا الصراع في العالم الغربي في عصر الغساني أن الدولة العثمانية لم تكن قد انهت ‏حروبها في أوربا بعد، ففي الوقت الذي بدأ فيه الغساني رحلته إلى الأندلس المنكوبة ، كانت القوات ‏العثمانية التركية تحاصر “بلكراد” من أجل استعادتها من جديد، في حين كان الأندلسيون الذين تم طردهم ‏من أسبانيا قد استوطنوا في مدن المغرب مثل تطوان وسلا وشفشاون ومكناس وطنجة وتافيلالت وفاس ‏والرباط ومراكش، وتحديدا في حي القنارية، المشتق من جزر القنارية الإسبانية ‏les iles canaries، ‏وكان هؤلاء يثيرون المشاعر القوية نحو الارض الضائعة، وكانوا قد حولوا “فاس” وسلا ومراكش ‏تحديدا إلى مدن للعلم والحلم،وكان بينهم العلماء والكتاب والمفكرون ممن جددوا الثقافة المغربية التقليدية ‏وأضافوا تقاليد أندلسية جديدة لنظم الحكم فيها،ولأنماط العيش والمعمار، ولكنهم ظلوا متمسكين بحلمهم في ‏العودة إلى الأندلس، وظلت الاسر الكبيرة تحتفظ بمفاتيح بيوتها في المدن الضائعة في الأندلس ، ‏ويورثونها لأبنائهم على أمل أن يجدوا هذه البيوت في انتظارهم يوما ما، ومما يحضرني ، في هذا الصدد ‏ويُثيرُ الحزن و الأسى أن هذا الأمر نفسه، يتكرر مع بعض اللاجئين الفلسطينيين الذين مازالوا يحملون ‏مفاتيح بيوتهم فلسطين ويوقنون أن معجزة ما سوف تحدث في يوم سعيد وتنقذهم من مخيماتهم البائسة،في ‏لبنان وفي سوريا وفي الأردن .‏
وإزاء هذا الوضع المطبوع بالصراع بين الجنوب المسلم والشمال المسيحي ، فقد انتشرت السفن الغربية ‏في البحار – وخاصة الأسبانية والبرتغالية ، زمن الإستمرار في حمى الإكتشافات الجغرافية الكبرى، ثم ‏البريطانية من بعدها وتسيّدتها وأصبحت تهدد الشواطئ المغربية وتحتل بعض الثغور منها كلما سنحت لها ‏الفرص اللوجيستيكية والتاريخية لها بذلك‎.‎
‎ ‎وتعد مدينة العرائش، التي كانت سببا من أسباب رحلة الغساني ، موفد السلطان مولاي إسماعيل إلى ‏أسبانيا، خير شاهد على ذلك. فقد كانت السفن البرتغالية هي أول من فطنت إلى أهمية هذه المدينة المغربية ‏الساحلية وقامت باحتلالها وتحصينها، وكان السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي قد خاض كفاحاً مريرًا ‏حتى استطاع أن يستردها من أيديهم خلال القرن الخامس عشر، وخوفا من أن تقع المدينة مرة أخرى قام ‏السلطان مولاي إسماعيل بتحصينها بالأسوار السميكة والعالية، ولكن الغريب في الأمر أن سلطانًا مغربيًا ‏آخر هو محمد الشيخ السعدي قام بتسليمها إلى الأسبان دون أي معركة ولكن وفق معاهدة ثنائية، تماما كما ‏فعل أهل غرناطة ، زمن أبو عبد الله آخر ملوكها بدعوى إعادة إعمارها والمحافظة عليها.‏
وقد استلزم إسترجاع العرائش قتالا طويلاً آخر حتى جاء سلطان مغربي ثالث هو مولاي اسماعيل العلوي ‏فعمد إلى محو أخطاء السلطان السعدي السابق وإسترد المدينة عام 1689م‎.‎
فقد كانت معارك السلطان مولاي إسماعيل ، متتالية وعنيفة، كبدت خسائر كثيرة في صفوف جيوش ‏الإسبان ومرتزقة أوروبا، وبلغ عدد الأسرى من الحامية الأسبانية حوالي 500 جندي، ومن هنا جاءت ‏فكرة السلطان مولاي إسماعيل في مبادلة الأسرى الذين وقعوا تحت يده بأسرى المغاربة من ممتهني ‏الجهاد البحري ، ومن كافة المسلمين الذين كانوا متواجدين في الأراضي الأسبانية‎.‎
‎ ‎ومهما يكن ، فإن قضية الأسرى المغاربة وبقية الأندلسيين الذين بقوا في الأندلس على مدار أكثر من ‏قرن ونصف قرن من الزمن، بعد سقوط غرناطة قد شغلت الرأي العام المغربي، والرأي العام الأوروبي ‏على حد سواء، وكانت المعارك التي لم تهدأ سواء في البحر أو البر قد خلفت نوعًا من الجراح من الصعب ‏اندمالها، وقد تعدت هذه المسألة كلا من المغرب وأسبانيا وانتقلت إلى اهتمامات البابوية في “الفاتيكان” ‏بروما وداخل بلاط الخليفة العثماني في الأَسِتانَة‎. ‎
ومن المؤكد أن السلطان مولاي اسماعيل كان من السلاطين المغاربة القلائل الذين استطاعوا الوقوف في ‏وجه النزاعات الاستعمارية الأسبانية، والأطماع العثمانية ، وتمكن من التعامل وجها لوجه مع قوتهم ‏البحرية التي كانت تتحكم في حركة الملاحة في البحر المتوسط. فأقام نوعًا من التوازن الجيو إستراتيجي ‏من خلال علاقاته الديبلوماسية المستمرة مع لويس الخامس عشر ملك فرنسا، لدرجة أن السلطان مولاي ‏إسماعيل عرض عليه أن يتزوج ابنته الأميرة كارولين، من أجل تقوية العلاقات بينهما.‏

الرجل الذي سافر

‎ ‎هذا، ويعد إرسال السلطان مولاي إسماعيل لمحمد بن عبد الوهاب الأندلسي الفاسي الغساني إلى الديار ‏الإسبانية، دليلا على شعور المغاربة بالقوة والندية هو الوزير المتوفى عام 1757 ميلادية ، فقد كان ‏الغساني ينحدر من سلالة الأندلسيين الموريسكيين ممن هاجروا من الأندلس بعد أن تساقطت ثغورها ‏واستقرت عائلته في فاس.‏
ولقد حملت عائلة الغساني معها قدرًا كبيرًا من العلم بالتراث الإسلامي، وكان ماهراً في نسخ المخطوطات ‏في سرعة لا يضاهيها فيه أحد، وهو ما أهّله من الولوج إلى دار المخزن. فقد رحل من فاس إلى مكناس ‏ليكون بالقرب من السلطان مولاي إسماعيل العلوي الذي كان نجمه صاعدًا، في كل بقاع العالم الإسلامي ‏والغربي. وقد لفتت مهارته نظر السلطان على الفور لأنه كان نجيبا في ذلك. وذكر أنه كان كل ما يلقى من ‏أوامر يكتبها ويستوفيها ولا يتهاون فيها بشيء مع كثرتها‎.‎
من أجل هذا قربه السلطان مولاي إسماعيل فصار وزيرًا، ثم اختاره من أجل بعثة إلى بلاد الإسبان، وكان ‏للرحلة هدفان أولهما إنساني ويتعلق بمبادلة الأسرى المسيحيين بالأسرى المسلمين من المغاربة، ممن ‏كانوا جنودا في الجهاد البحري، قبيل عصر السلطان، أو تجارا ملاحيين يجوب المتوسط بسفنهم ‏ومراكبهم، أو حتى من المسافرين المغاربة والمهاجرين من المشرق إلى المغرب ممن سقطوا في أيادي ‏قراصنة البحار الشمالية، وإقتيدوا إلى الأسر والعبودية.‏

خطة إسماعيلية

وعلى كل حال، فقد كان السلطان مولاي إسماعيل، يعتزم أن يبادل 500 أسير، من الذين أسرهم بعد ‏موقعة العرائش مع العديد من الأسرى المسلمين وبقايا أسر الموريسكيين الذين بقوا في الأندلس بعد ‏سقوطها وأرغموا على اعتناق المسيحية، كما أن أهداف بعثة محمد بن عبد الوهاب الغساني كان علميا ‏وحضاريا ثقافيًا، يتمثل في استعادة مخطوطات السلطان مولاي زيدان السعدي إبن السلطان أحمد ‏المنصور الذهبي، الذي كان عاشقًا للكتب والمخطوطات، ومن شدة خوف هذا السلطان على مكتبته الثمينة ‏من أن تقع في أيدي غوغائيو القبائل ، بعد إستفحال “السيبة” وكثرة مهاجمة القبائل لعاصمته آنذاكـ ‏مراكش، عمد إلى شحنها بإحدى السفن بآسفي حتى ينقلها إلى مدينة أكادير، وبينما كانت السفينة في وسط ‏المسافة بين آسفي وأكادير أغارت عليها سفن القراصنة الأسبانية، واستولت على حمولتها بما فيها من ‏كتب ونفائس، فتبددت النفائس من ذهب وحلي وأحجار كريمة وسروج مطهمة وسيوف خناجر غالية ‏بطبيعة الحال، ولكن المخطوطات التي بلغ عددها خمسة آلاف نُقلت إلى مكتبة الاسكوريال الشهيرة في ‏مدريد ، ليكون إنقاذ هذه المخطوطات من الأسر هو الهدف الثاني لرحلة السفير الغساني .‏
ورغم أن المستشرق الروسي المعروف كراتشكوفسكي لم يصدق هذه الأهداف المُعلنة، فقد شكك في أن ‏تكون رحلة الغساني قد نجحت في تحقيقها. ويرى أن الهدف الرئيسي كان هو محاولة من الغساني لعقد ‏صلح بين السلطان المغربي القوي مولاي إسماعيل والملكـ الأسباني يروم السيطرة على مضيق جبل ‏طارق .‏
‏ وحتى إن كان الأمر كذلك فهذا لاينفي شرعية وموضوعية الأهداف المعلنة، وأَيَةُ ذلكــ ، أن أي معاهدة ‏للصلح لابد أن يستتبعها استعادة الممتلكات واستعادة الأسرى ورغم هذا الهدف السامي لرحلة الغساني إلا ‏أن الكثير من مقاطع كتابه توحي أنه كان بدوره أسيرا بشكل أو بآخر، اسيرا لسطوة السلطان مولاي ‏إسماعيل المطلقة التي كانت تحتم عليه فعل المستحيل من اجل نيل رضاه حتى وهو بعيد في بلاد ‏الاسبان، أسير لأسوار المخزن وشراسة الجند وخائف لحد الرعب من سجون المولى إسماعيل التي كانت ‏تمتد مثل قبو بالغ الاتساع تحت ارض مدينة مكناس، وهو مازال باقيا حتى الآن ورغم أنه تحول إلى ‏مزار سياحي فهو لم يفقد شيئا من رهبته‎.‎
‎ ‎

الغساني سفير بأكثر من عينين

‎ ‎ومما لاشك فيه أن رحلة هذا الدبلوماسي المغربي المميز محمد بن عبد الوهاب الغساني، يرحمه الله، قد ‏أضافت بعد تدوينها وكتابته للملاحظات التي رأها في بلاد إسبانيا، القرن السادس عشر الميلادي، قد ‏أضافت رصيدا كبيرا للتاريخ المغربي، وللآداب العربية، وللمغرب الذي خرج منه أشهر الرحّالة ‏المشاهير أمثال ابن بطوطة وابن جبير والتيجاني والحسن الوزان وغيرهم ممن لا يزلن ولا يزالون ‏يفعلون إلى حدود كتابة هذه الأسطر.‏
ومما لاشك فيه كذلكـ ، أن ازدهار “أدب الرحلات” في المغرب فرضه موقع هذا المملكة المغربية في ‏أقصى العالم الإسلامي، وقربها الشديد من أوروبا ، وتواجدها فوق رأس إفريقيا.‏
وبعيدا، عن السفراء والرحالة المغاربة، والتجار المغاربة من رواد القوافي في مراكش وسجلماسة وفاس ‏وتارودانت والسمارة وسلا، فقد دأب أكثر المغاربة من دخول الإسلام، ومند “رجال ركراكة” إلى شد ‏الرحال نحو مكة إلى بيت الله الحرام والمدينة المنورة قبر رسوله الشريف، والقدس الشريف أولى القبلتين ‏وثالث الحرمين، فكان ذلكــ ، واحدا من الأهداف والأحلام التي دفعت المغاربة للرحيل الدائم. ولكن رحلة ‏الغساني كانت مختلفة في الغرض وفي الاتجاه عن رحلات الحج السابقة، فقد كانت رحلة ديبلوماسية، ‏يرعاها مولاي إسماعيل ملكـ مغربي سدت شهرته كل الآفاق الدولية في عصره .‏

وقد ذهب الأستاذ محمد الفاسي الباحث والعالم المغربي يرحمه الله ، إلى أن الغرض من رحلة الغساني ‏كان هو القيام بسفارة لدى إسبانيا كدولة أجنبية، طالما نافست المغرب، وكان الهدف منها أن يقوم بتدوينها ‏السفير الغساني يرحمه الله نفسه ، خصوصا وأنه كان من أهل العلم والأدب .‏

تقارير ليست كالتقارير

وبالفعل فقد سجل الغساني تفاصيل هذه الرحلة في كتاب “رحلة الوزير في افتكاكــ الأسير”‏‎ ‎وغطت فترة ‏عام كامل من عام 1690 إلى 1691 ويشوب الغموض الكثير من رحلة الغساني، فهي تنتهي فجأة وهو ‏في طريق عودته، فبعد أن ينتهي من بعثته الدبلوماسية ويقابل الملك الأسباني نراه وقد أنهاها عند إحدى ‏القرى المجاورة لمدينة طليطلة أو “توليدو” حاليا ، كما يطلق عليها الآن. ‏
ولا يذكر الغساني شيئًا بعد هذه النقطة من رحلته رغم أنه يواصل الكتابة ولكن في موضوع آخر، ولعل ‏طليطلة التي كانت منطلقًا لملوك العجم من أجل استرداد الأندلس وقد سقطت في زمن الغساني قبل نصف ‏قرن من سقوط بقية المدن قد أثارت في نفس الغساني ذكريات الفتح الأول، لذلك ترك تدوين وقائع عودته ‏وأخذ يتحدث عن وقائع الفتح بالتفصيل واللقاء الذي جمع بين طارق بن زياد الأمازيغي وموسى بن نصير ‏العربي القادم من مركز الخلافة الأموية ثم الخلاف الذي دب بينهما وكيف حاول كل واحد منهما أن ينسب ‏الفتح لنفسه‎.‎

نتائج سفارة الغساني

والواقع، أن رحلة الغساني قد نجحت في بعض أهدافها، فقد فقد قبل ملك أسبانيا صفقة تبادل الأسرى، ‏‎ ‎وإن ‏كان الغساني نفسه، أو التاريخ لايخبرنا شيئا عن جمع هؤلاء الاسرى أو ترحيلهم، أما بالنسبة للهدف ‏الثاني ، المتعلق بإسترداد الكتب والمحطوطات العلمية والفقهية والأدبية، والوثائق المخزنية للسلطان ‏السعدي المولى زيدان ، فقد قام المسئولون الأسبان بأخذ الغساني إلى مكتبة الاسكوريال في مدريد ، ‏وجعلوه يرى بعينيه آثار الحريق الذي التهم كل ما في المكتبة من كتب ومخطوطات وكيف طالت النيران ‏حتى أخشاب السقف. وقد اقتنع فيما يبدو الغساني بهذه الحجة ولم يثر الموضوع مرة أخرى‎.‎
‎ ‎وقد تبين فيما بعد أن حوالي ثلاثة آلاف مخطوط منها كانت موجودة في أقبية الدير المسيحي ، الذي لم ‏تمسَسْهُ النيران أثناء الحريق المذكور.‏
وعلى كل حال، فقد أصبحت هذه المخطوطات والنفائس الفكرية والعلمية المغربية فيما بعد هي نواة مكتبة ‏الاسكوريال في مدريد ، كأكبر مكتبة اليوم تحتوي على المخطوطات الإسلامية في العالم‎.‎
ولكن التحوّل الفكري الذي أحسّ به الغساني بعد انتهاء الرحلة كان واضحًا وجليًا، فقد بدأ الرحلة وهو ‏يعتقد أنه ذاهب إلى مخزن آخر يشبه المخزن الذي خرج منه ولكنه اكتشف أنه أمام دولة تتطور ، وأن ‏أسوارها حول حدودها الخارجية وليس داخلها، وأنها تعيش مرحلة مهمة من تحولها تنمو فيها بذور ‏مؤسسات المجتمع المدني الحديث مثل البريد والصحافة والمستشفيات المتخصصة.‏
كما لاحظ الغساني أن إحساسه كواحد من أحفاد أهل الأندلس ، الفردوس المفقود قد تغير فقد بدأ رحلته إلى ‏أسبانيا وهو يعتقد أنها إحدى ديار الإسلام الضائعة وسوف يعيدها الله – طال الزمن أو قصر – إلى الإسلام ‏مرة أخرى. ولكنه فوجئ أنه أمام دولة مختلفة تماما، لم تعد تتطلع إلى الوراء ، وأن لقناطر المقنطرة من ‏الذهب تتدفق عليها من العالم الجديد، وأن ملوكها باتوا يحكمون أجزاء كبيرة من العالم ، وأن سفنها من ‏نوع “الكارابيلا” صارت تجوب بحار ومحيطات الدنيا .‏
ولم ينس الغساني أن يستخدم ذكاءه البارع وثقافته الشاسعة وأن يقدم تقارير بطريقة غير مباشرة عن ‏الحياة اليومية للملوك والأمراء الأسبان ، وكأنه يبعث برسالة إلى مولاي إسماعيل سلطانه المغربي القوي ‏الذي كان حاكمًا مطلقًا، لقرابة النصف من أراضي شمال إفريقيا يصف فيها تفاصيل طقوس يوم القيامة ‏في المنظور المسيحي الكاثوليكي ، وكيف يقوم الملك بدعوة ثلاثة عشر رجلا من الفقراء إلى قصره، وهو ‏نفس عدد الحواريين الذين حضروا العشاء الأخير مع السيد المسيح عليه السلام ، وكيف كان الملكـ يقوم ‏بخدمتهم بنفسه ويقدم لهم الطعام ثم يقوم بغسل أقدامهم جميعًا وتنشيفها ثم يقبلها قدما،قدما. ‏
فقد صور السفير المغربي الغساني صورة مدهشة لتواضع الملوك الإسبان حتى ولو تم ذلك مرة واحدة ‏في العام .‏
لقد أحسن السلطان المغربي مولاي إسماعيل في اختيار السفير الغساني الذي أرسله. فقد كان الغساني مثقفا ‏وأديبا وعالما بالتاريخ، و وزيرًا عارفًا بتفاصيل الصراعات الدولة والتناقضات بين الدول الأوربية ، ‏وكان مع كل هذا، يبتعد في تقاريره الديبلوماسية عن كل تلفيق أو تحامل أو تزوير، ويتميز بأمانة كبيرة ‏وروح إسلامية متسامحة في فترة عصيبة من الصراع الإسلامي المسيحي ، وما عرفه من محاكم للتفتيش ‏قهرت الموريسكيين من مسلمين ويهود بالأندلس، وطبع كل أقطار أوروبا بروح التعصب الأعمى الذي لم ‏يسلم من شروره حتى المسيحيون أنفسهم نتيجة محاكم التفتيش التي إستمرت منذ 1492 ‏‎.‎

حضور السلطان

وعلى ما يظهر ، فإن كتاب “رحلة الوزير في افتكاكــ الأسير”‏‎ ‎‏ الجامع لرحلة الغساني الوزير في بلاط ‏مولاي إسماعيل ، والسفير يرحمه الله إلى بلاد إسبانيا ، جاء كتقرير مطول كتبه الغساني ليرفعه إلى ‏أعتاب مولاي اسماعيل سلطان المغرب ، وإن تضمن نتائج رحلة دبلوماسية لم تكن كبيرة النتائج.‏

‏ وقد اعتمدت هذه الدراسة على الطبعة التي أصدرتها دار السويدي في إطار مشروع ارتياد الآفاق وقام ‏بتحريرها وكتابة مقدمة جيدة لها الشاعر نوري الجراح. وقد اعتمد هو بدوره على نسخة أقدم عمرًا حققها ‏الفريد بن جرجس بن شبلي البستاني ونشرها في مدينة تطوان عام 1939مستندًا إلى ثلاث مخطوطات ‏ناقصة.‏
وألفريد البستاني ، هو لبناني من عائلة مسيحية عربية، أعطى أبناؤها، على غرار المعلم بطرس البستاني، ‏وسليمان البستاني وعبد الله البستاني الشيء الكثير للثقافة والموسوعة العربية خلال القرن التاسع عشر، ‏فقد كان ألْفْــريد ‏‎ Alfredالبستاني يجيد اللغة العربية والأسبانية وقد عمل مترجما في صفوف قوات ‏الجنرال فرانكو التي كانت تحتل المغرب، ولم ينشر البستاني نص رحلة الغساني كاملا ولكنه حذف منه ‏فصلا كاملا أعتقد فيه أن الغساني قد سخر وانتقد فيه العقائد المسيحية‎.‎
‎ ‎ولكن هذه الرحلة لم تكن مجهولة قبل ذلك التاريخ.فقد خلط الكثير من المؤرخين بينها وبين رحلة قام بها ‏مؤرخ مغربي آخر هو أحمد بن المهد الغزال ومن الواضح أنها كانت رحلة سفارية أخرى، ولكن الذي ‏أعطى هذا المخطوط حقه بقدر هو المستشرق المعروف أغناطيوس كراتشكوفسكي الذي تحدث عنها ‏بالتفصيل في كتابه تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ولقد وصف الغساني قائلا : من اتجاهه العام يبدو ‏السفير المغربي الغساني كعالم أثنوجرافي واجتماعي أكثر منه مؤرخا. فهو يهتم قبل كل شيء بوصف ‏الأخلاق والعادات والنظم وفي هذا المجال ، فقد تفوق معطياته أحيانا حتى الأوصاف الأوربية المعاصرة ‏له.‏

الدخول إلى أرض الخصم

 

بدأت رحلة الغساني إلى إسبانيا يوم 19 أكتوبر 1690 من ميناء جبل طارق. وتعرضت مثل العديد من ‏الرحلات إلى تقلبات الطقس الذي تعرفه منطقة البوغاز، مما أدى إلى تأجيل عملية العبور لعدة أيام. ‏وكانت الخطوة الأولى في رحلة السفير المغربي الغساني هي من جبل طارق أول مكان وطأته أقدام القائد ‏المسلم المغربي طارق بن زياد وهو يستعد لغزو بلاد إسبانيا، تحت إمرة خلفاء دمشق من الأمويين، الوليد ‏بن عبد الملكـ ، ولكن الغساني رآى جبل طارق وقد أصبح حصنا منيعا تسكن فيها حامية عسكرية إسبانية ‏، أنظارها موجهة باستمرار ناحية الساحل المغربي، خوفا من عودة الجيوش المغربية لإحتلاله في نظرهم ‏،وحيث ظل الإسبان منذ سقوط غرناطة سنة 1492 م يترقبون هجمات المغاربة، ولكن المفاجأة أن الهجمة ‏جاءت عبر القنال الإنجليزي عندما احتلت بريطانيا هذا الجبل بعد رحلة الغساني بأربعة عشر عاما فقط ‏أي في عام 1704م‎.‎

والحق ، أن السفير الغساني سار بطول الساحل الإسباني بسفينته ولم يهبط إلى البر إلا في ميناء قادش ‏وهناك كان في انتظاره استقبالان.‏
إستقبال رسمي من طرف حاكم مدينة قادش، وإستقبال شعبي يتمثل في عشرات الأسرى ممن إصطفوا في ‏أزقة قادش ، ممن كانوا ينتظرون من يفك أسرهم، هاتفين بإسم السلطان مولاي إسماعيل ، فقد كان هؤلاء ‏الأسرى، تحت الإقامة الإجبارية والحراسة المشددة، ولم يكونو في زنازن السجون الإسبانية، بل كانوا ‏مطلقي السراح ولكن حالة بائسة ، وفي سوء تغذية، يقومون بالأشغال الشاقة من إقتلاع لحجارة الجبال، ‏وإصلاح للطرق ولدورات المياه، كما كانوا عرضة للسخرية خاصة من جانب الاطفال الصغار الاسبان ‏،ممن يعيبون كلامهم المغربي، وهو ما لاحظه الغساني بنفسه. ‏
ولا بد أن الحاجة إلى طاقتهم في مثل الأعمال الشاقة هي التي جعلتهم مطلقي السراح هكذا. فقد كانت ‏قادش في هذا الوقت هي الميناء الرئيسي الذي يتدفق منه الذهب القادم إلى إسبانيا من العالم الجديد وما ‏يخلق لدى ساكنة قادش من الدعة والرفاهية جعلت الأسبان يأنفون على القيام بهذه الأعمال الشاقة .‏

ولقد اكمل السفير المفاوض الغساني رحلته برا متوجها إلى الشمال، صوب مدريد، وهو ما سمح له ، أن ‏يشاهد عشرات البلاد والقرى وأن يراقب طقوس الزراعة والري وبناء الطواحين الهوائية وتشييد القناطر، ‏وفي أن يستمع إلى أغاني “الفلاح المفجوع” أو ما يعرف بــ “الفلامينكو” وأن يشاهد ضراوة حركات ‏راقصيه وراقصاته، وكأنهن يحتججن على ضياع ممتلكاتهم ، وأن يقابل بقايا الأندلسيين من المسلمين ‏واليهود، وقد علقوا الصلبان على صدورهم، مخافة إقتيادهم لمحاكم التفتيش التي لا ترحم، فقد شاهد ‏السفير الغساني هؤلاء وهم يحاولون جاهدين إخفاء جذورهم القديمة وإظهار الاخلاص لحياتهم الإسبانية ‏الجديدة ودينهم المسيحي. كما اجتاز الغساني العديد من غابات من الزيتون، كأعظم الآثار التي تركها ‏المسلمون في الأندلس،بعدما جلبوا هذه الشجرة المباركة من وديان الشام،زمن فتوحات موسى بن نصير ‏وعبد الرحمان الغافقي وطارق بن زياد ، على غرار فسائل النخل ، وابتكروا السواقي التي ترفع المياه من ‏أعماق الوديان إلى أعلى التلال وحولوا الهضاب القاحلة إلى غابات من الزيتون مازالت مزدهرة حتى ‏الآن‎.‎

 

“مورا” المدينة المُدوَّخـــةُ

وفي قرطبة قابل السفير الغساني أسيرًا من نوع آخر، إذ وقف حزينا ومشدوها أمام مسجدها الكبير الذي ‏رأى كيف تشوهت عمارته وتحول قسرا إلى كنيسة كاثوليكية وهي رؤية أثارت الكثير من الحزن و الأسى ‏في نفسه وجعلته يستحضر تاريخ هذا المسجد الكبير الذي كان مجرد حلم في صدر عبد الرحمن الداخل ‏‏”صقر قريش”وهو يسعى هاربا من مطاردة بني العباس ناذرا لله إن مكنه في الأرض، ونجَّاه من فيالق ‏أبي العباس السفاح ، أول خلفاء بني العباس ، أن يبني له ولإعلاء إسمه جل جلاله أكبر مسجد، فيما لم ‏تشهده عين بشر.‏
وهكذا، بقي السفير الغساني يستمع إلى كل الأصداء القديمة وهي تتردد في جنبات المسجد، خليط وارف ‏من مزيج الأدعية والابتهالات ، فكأنه كان يتحسس أصداء استغاثات ما قبل سقوط قرطبة ، وهو يراقب ‏الصلبان التي تعلو السقوف والأبواب ، والأجراس وهي تدوي من أعلى منارة قرطبة بدلا عن صوت ‏الأذان‎.‎
وفي بلدة (الكاربي) قابل الغساني وجها آخر حزينا من بقايا الأندلسيين. إنهم أحفاد بنو سراج الذين اختلفوا ‏مع آخر ملوك غرناطة ابو محمد الصغير فخرجوا عليه وأعلنوا تنصرهم وإعتنقوا الكاثوليكية ، وانضموا ‏للإسبان وساهموا في حصار مدينة “الكاربي” حتى سقطت، والمدهش أن أحفادهم ظلوا يلعبون على هذا ‏الحبل المتسخ والخبيث ، فلم يصبحوا مسيحيين مخلصين ولا بقوا مسلمين، وقد لاحظ السفير المغربي ‏النابه، الغساني أنهم موطنون في إسبانيا من الدرجة الثانية ، وأن مواطنتهم الأسبانية ناقصة،وكأنهم ‏توارثوا إرث الخيانة وخطيئتها جيلا بعد آخر. ‏
وتأكد للغساني وهو يزور “مورا” مدينة أندلسية ، تأخر دخول أهاليها للمسيحية، فوجد أهلها يزرعون ‏العنب بكثرة ولا يكفون عن عصره وتخميره وشربه صباح مساء ، كأنهم يدفنون في الخمر كل الذكريات ‏التي كانت والتي لا يستطيعون مواجهتها‎.‎
ومهما يكن، فعلى هذا المنوال ، سارت ملاحظات الغساني، متأملا في أحوال الأندلس السليبة ، بلادا ‏وعبادا، وباكيا على آثار الأندلسيين مندهشا من العادات والسلوكيات التي لم يرها من قبلُ، حتى وصل ‏أخيرا إلى مدريد‎.‎
كانت مقابلة الغساني مع الملك الإسباني قصيرة ومُوجَزَة، اقتصرت على التحية الواجبة للملوك ، وتسليم ‏خطاب السلطان مولاي إسماعيل وتبادل بعض كلمات المودة، ثم تركه الملك الإسباني لينعم بالضيافة ‏والتأمل ريثما يأتيه الرد على الخطاب الذي حمله‎..‎‏ ‏
ولأن الغساني كان سفيرا ورجل دهاء وسياسة ، فقد أصر في تقاريره للسلطان مولاي إسماعيل على أن ‏يطلق على الملك الإسباني لقب الطاغية ، وأن يدعو بهلاكه العاجل هو وأمثاله من على وجه الأرض.‏

أكثر من سفير

وطبيعيٌ، فقد كانت المدة التي قضاها السفير الغساني في إسبانيا مابين 1690 و1691 م، فرصة كبرى ‏ليتابع مظاهر الحياة في إسبانيا الجديدة. ولعل اول هذه المظاهر الثراء الذي ظهر من جراء اكتشاف ‏أمريكا أو الأرض الجديدة، وظهور الأشكال الأولى من تنظيمات الدولة الأوربية الحديثة مثل البريد ‏والصحافة والخدمات الصحية المختلفة. كما راقب الرياضات التي يقوم بها الإسبان مثل التزلج على الجليد ‏في الشتاء ومصارعة الثيران في الأعياد. وكانت المصارعة في ذلك الوقت لا يقوم بها مصارعون ‏محترفون وإنما يقوم بالتصدي للثيران كل من يجد في نفسه الشجاعة، وما أكثر التهور الذي يُغلفُ ‏بالشجاعة ، وإن كان ليس بينهما رابط عقل أو روح .‏
ويشرح الغساني بعضا من مكائد البلاط الإسباني ويقوم بزيارات عديدة لأسواق مدريد ، وقد بقي الغساني ‏متجولا في إسبانيا ومقيما في مدريد حتى سمح له الملك الإسباني كارلوس الثاني بالدخول إليه، تذكره ‏واستلم منه رسالة السلطان مولاي إسماعيل وأعطاها لمترجمه الذي ينحدر من مدينة حلب بالشام، وكان ‏مسيحيا عربيا، ليترجمها له. وقد سببت له كلمات السلطان اضطرابا كبيرًا على حد تعبير الغساني فلم يجد ‏بدًا من الامتثال لأمره المطاع ، فشرعوا في جمع الأسرى أما بالنسبة للكتب والمخطوطات فقد أخذوه في ‏رحلة الأسكوريال الشهيرة بمدريد ، ليشهد بنفسه آثار الحريق الذي إلتهم الكتب، كما سلفت الإشارة.‏
وفي يوم 20 من أكتوبر عام 1691 قرر الغساني أن يغادر مدريد بعد أن انتهت مهمته، فجعل يطوف ‏بالعديد من القرى حتى دخل مدينة طليطلة الباهرة. وهنا كانت نهاية المطاف رحلته مثلما كان هنا بداية ‏الاسترداد.‏
وكانت طليطلة قد سقطت في أيدي الإسبان عام1086 م أي قبل سقوط غرناطة آخر المدن بحوالي ‏‎400 ‎عام ، ومع ذلك لم ينتبه أحد إلى بداية الكارثة القادمة فلله الأمر من قبل ومن بعد‎.‎

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.