“راحيل”فنانة أديبة ألهبت قلوب الجماهير، وملكت أسرار خشبات المسارح
مـحـمـد الـقـنـور :
ولدت هذه الفنانة الشهيرة في الرابع والعشرين من شهر مارس سنة 1821م في قرية “مانيف” بسويسرا ، وكان أبوها يهوديا ، وتاجرا متجولا في قرى جبال الألب، يحمل البضاعة ويطوف بها على البيوت وكان أسمها في الصغر “أليا” ثم دعيت “راحيل” بعد أن صارت مشخصة وكان لها أخ وأربع أخوات صاروا جميعهم ممثلين مسرحيين .
وانتقلت هذه العائلة من “سويسرا” إلى “جرمانيا” وهي الدولة التي كانت تجمع آنذاكــ ألمانيا وبعض أراضي النمسا وبولونيا، ثم جاءت إلى فرنسا فاستوطنت أولا بمنطقة “هون”، قبل أن تنتقل إلى مدينة باريس .
وظهرت “راحيل” أول مرة في المسرح الفرنسي في 12 يونيو سنة 1838م، ولم يكن في هذا المسرح سوى أربعة أو خمسة أشخاص على الكراسي وبعض اليهود في أعلى “التياترو”، ممن أتوا للمسرح ليسمعوا ابنة ديانتهم وقد وصف الدكتور “فرون” تلك الليلة بقوله: ذهبت ذات مساء يوم ربيعي للتنزه وكان الوقت حارا قليلا شأن أيام الصيف الدافئة عندنا ، فدخلت المسرح الفرنسي وإذا في محل التمثيل فتاة جديدة، وقد رأيت على وجه هذه الفتاة ملامح الإبداع والذكاء ، لدرة أن كل لفتة منها كانت تأتي بمعني جديد إلى أن قال: وما أخال أحداً من القراء يجهل هذه الفتاة التي ملأ ذكرها الأسماع -ألا وهي “راحيل” الممثلة الشهيرة، ولم يأت آخر شهر غشت من تلك السنة حتى ملأ صيتها باريس، وأطنب بمدحها الكثيرون من الأدباء والنقاد ومختلف أرباب الأقلام، كان من جملتهم الأديب الناقد “جولجانن” الشهير.
وكانت “راحيل” وشقيقتها “سارة” من قبلُ تغنيان في المقاهي والأزقة، وكان الناس يتصدقون عليهما واتفق يوما أن رآهما أحد المحسنين فأعجب بهما وبالأخص بــ “راحيل” وسألها قائلا من علمك الغناء؟ فأجابته” قد تعلمته بنفسي. فقال لها: وأين سمعت هذه الأغنية ؟ فأجابت: قد سمعتها وأنا في الشوارع أمام الشبابيك، فحفظت منها ما أمكن حفظه فأعطاها بعض الثياب وصرفها ، ومن ذلك الوقت لم تعد تظهر في الشوارع.
وفي مدة لاتزيد عن ثلاثة أشهر توجت “راحيل” كملكة للتمثيل ونجمة الخشبات المسرحية في كل فرنسا، فشغلت الناس عن سواها من ممثلات ذاكـ العصر ، وتلك الأيام واعتبرها الشعب الفرنسي غاية في الأداء ومكنها من شتى صنوف الاعتبار، فكانت واسطة عقد منتدياتهم ومسارحهم وكانت مع كل ذلكــ زهرتها وسيدتها ، فكانت الدعوات تأتي إليها من كل حدب و صوب حتى أنها كتبت إلى أحد أصدقائها تقول: لا يمكن للإنسان أن يأخذ حريته في معيشته إذا كان ممثلا مشهورا لدى الشعب الفرنسي ، كما كان الوزراء تترددون على المسارح لسماعها لدرجة أن الملكـ “لويس فيليب” شخصيا أتى للمسرح ولمرات عديدة إكراما لها ، وإعجابا بفنها وذلك على خلاف عاداته التي عُرف بها في عدم إرتباطه بمتابعة الحفلات والمسرحيات ، ولم ينسها النجاح أهلها بل كانت تودهم كثيرا، وكنت رسائلها لهم مملوءة بالكثير من عبارات المحبة وتعابير الحنو، وكانت تود أصحابها القدماء كثيرا، وقد بلغها ذات يوم نعي وفاة أحدهم فأرسلت إلى عائلته الفقيرة مبلغاً هائلاً من المال.
وقد أحيت راحيل بتمثيلها العادات والمظاهر الكلاسيكية والمناظر الرومانية واليونانية التي كان قد مضى عليها قرون طويلة في زوايا النسيان، وقد وصفها “إسكندر دوماس” الروائي الشهير بأنها ذات سلطان قوي على عقول السامعين، مما جعلها تؤثر فيهم بحركاتها على الخشبة ونظراتها إلى جمهور وصوتها المشجى حتى كانوا يملون من الفترة بين الفصول.
ومهما يكن فقد ذهبت “راحيل” سنة 1840م إلى إنكلترا فتناولت الجرائد والصالونات الفنية تجربتها الإبداعية، وأطنبت في ذكر تألقها الفني، لدرجة أن جريدة”التايمز” آنذاك تطرقت إلى أبعاد تأثيراتها الفنية وقوة أدائها في النفوس وعلى العقول ابتدأ من أول عبارة لفظتها”.
وذكر أحد الذين حضروا هناك أنها كانت تظهر أمامهم بجميع المظاهر وتبين لهم تداعيات وأهواء القلب البشري بكل أوصافه فكانت تظهر تارة بزي القتلة، فتبدو على وجهها علامات الغضب والشر حتى لا يشك الناظر أنها قاتلة ثم تمثل دورا لطيفا فتغلب عليها طبيعة وحلاوة ونعومة النساء وتظهر من الرقة واللطف ما يخلب الألباب، وهكذا كانت تتلاعب تمثيلا بأفئدة الحاضرين كأنهم آلة في يدها، ومما يدل على ثباتها وعزمها ما أظهرته في تمثيل رواية “بايزيد” السلطان العثماني ، فقد مثلتها أول مرة في 23 نونبر سنة 1838م، ولم تنجح فعادت بالفشل.
وفي اليوم الثاني نشرت الجرائد في المدينة كلها خبر فشل المسرحية، وقام الانتقاد عليها من كل الأندية الثقافية والمقاهي الأدبية، ولما رأت ذلك سارت إلى صديقها “جانن” الذي مر ذكره لعلها تلطف حكمه عليها ولو قليلا فقابلها بلطف وبين لها أخطاؤها في الأداء ونصحها أن لا تقدم على تمثيل هذه الرواية مرة أخرى ، غير أنها شددت بكونها ستمثل هذه الرواية رغما عن كل أهالي باريس ومثلتها، كما قالت، فنجحت النجاح التام حتى أذهلت الحاضرين، وكان الشاعر الكبير “ألفرد دو ميسي” من جملة المعجبين بــ راحيل ، وكان يمدحها في الجرائد ويحث الناس على الأخذ بيدها وتنشيطها.
وحدث أنه صادفها هذا الشاعر الشهير في الأدب الفرنسي ذات ليلة خارج المسرح بباريس فدعته مع بعض الأصدقاء إلى العشاء ببيتها ، فلما وصلوا إلى البيت نظرت إلى يديها فرأت أنها نسيت أساورها وخواتمها في المسرح و فأرسلت خادمتها لإحضارها إليها، ولما لم يكن في بيت أبيها غير هذه الخادمة قامت هي بنفسها وذهبت إلى المطبخ ثم عادت بعد ربع ساعة ووضعت أمامها صحناً من المرق وبعض اللحم المشوي وطلبت من ضيوفها أن يأكلوا من الصحون الكبيرة إذ كانت الصحون الصغيرة في الخزانة، والمفتاح مع الخادمة، وكانت وهي على العشاء تحدثهم عن حالتها الأولى وما كان أبوها عليه من الفقر وما كانت والدتها وأخواتها ينظرون إليها شزرا ويشيرون إليها بأن تسكت.
وطبيعي، فقد آمنت “راحيل” أن لا عيب في الفقر بل إنها كانت تفتخر بأنها نشأت من حال كهذه ووصلت إلى ما وصلت إليه من شهرة وصيت ذائع بجدها. وبعد العشاء ذهب الأصدقاء وبقيت هي وحدها فأخذت تقرأ أشعار “راسين” وقد رأى الكثير من الأدباء والنقاد أنها تفهم شعر الكلاسكيين والرومانسيين في فرنسا جيدا.
إلى ذلكــ ، فقد كانت الممثلة والفنانة “راحيل” تدأب على قضاء نصف الليل في القراءة وحفظ الشعر، لتهذيب ذوقها وتنمية ملكاتها اللغوية وفصاحتها الأدائية على الخشبة ، وقد حدث أن رجع والدها ذات ليلة متأخرا إلى البيت، فلما رآها وقد أغرقت في المطالعة والبحث في الكتب والدواوين الشعرية، وأنها تستهلكـ في ذلكـ زيوت القناديل بمنزله، انتهرها وأمرها بأن تنام حالا فقامت والدموع ملء عينها ، لتخبره أنها ستقتني قنديلا وأنها ستضعه في غرفتها الخصوصية حتى لا يمنعها أحد من المطالعة، فقفل والدها متعجبا من اجتهادها وثباتهاورباطة جأشها .
وذكر في حادة أخرى، أن كاتبا مسرحيا فرنسيا كان ضيفا رفقة العديد من صديقاتها وأصدقائها على مائدتها، وذلكــ بعد شهرتها ووصولها إلى النجومية،فنظر إلى يدها وقال لها: ما أجمل خاتمك يا “راحيل” ! فقالت له: إذا كان قد أعجبك فسأضعه تحت المزايدة فدفع أحد الحضور خمسمائة فرنك ودفع الآخر ألفا، وهكذا حتى بلغ ثلاثة آلاف، ثم التفتت إلى الكاتب المسرحي المذكور قائلةً وأنت كم تدفع ؟ فأجابها أنه سيدفع محبته فرمت بالخاتم إليه وطلبت منه إتمام وعده بنظم دور كانت قد طلبته منه.
وذهبت “راحيل” إلى إنكلترا مرة ثانية سنة 1855م فشخصت في قصر الملكة “فيكتوريا” فأنعمت عليها الملكة بسوار قد كتبت عليه بالألماس إلى “راحيل” من الملكة “فيكتوريا”، وأرسل إليها “دوق ولنثون” رسالة يقول فيها” إني أرسل احتراماتي إلى الآنسة الفنانة المرموقة “راحيل” وأخبرها أنه إستأجر “خشبة” في المسرح حتى يتمكن من حضور تمثيلها.
وذهبت سنة 1855م إلى أمريكا ولكنها لم تنجح لأن الأميركان لا يهتمون كثيرا بالروايات الفرنسية، ذلكــ لأنهم لا يفهمونها واشتد عليها مرض الصدر في نيويورك فرجعت إلى فرنسا وأشار الأطباء عليها بالذهاب إلى مصر فأتت إليها ولكنها لم تستفد كثيرا فيها لأنها شعرت بنفسها أنها وحيدة بعيدة عن أصدقائها وصديقاتها حتى أنها كتبت إلى فرنسا تقول: إني سأموت من الوحدة لا من فعل المرض، ولكن لأني لا أرى حولي سوى خرائب الهياكل وأنقاض الأبنية ورجعت إلى فرنسا ، وطفقت تزور المسارح التي كانت تمثل فيها، وتوفيت في الثالث من يناير سنة 1858م .
ولايزال معظم مؤرخي الآداب والنقاد والأدباء يُجمعون على أن “راحيل” كانت واحدة من العبقريات التي عرفها فن التمثيل في أوروبا القرن التاسع عشر ، وأنها ملكت مختلف فنونه ، فــإنقاد لها طوعا ومع ما كان من أمرها فقد أظهرت في عملها من الثبات والعزم رغما عن ضيق ذات اليد ما تقصر عنه همم الرجال من الفنانين، وقد أكدت مرارا عديدة : “إنها اتخذت الصبر والثبات دستورا لها ولحياتها بمعونة الله فوصلت إلى ما وصلت إليه”.