قد لا يعرفه الكثيرون من الجيل الجديد، وقد يسمعون اسمه خلال كل نقاش حول إصلاح التعليم، دون أن يعرفوا من هو ولا فضله على النظام التعليمي بالمغرب. لكن اسم “أحمد بوكماخ”، رجل التعليم الخالد، سيظل منقوشا في ذاكرة غالبية المغاربة ممن كانوا طلابًا في المدارس الحكومية المغربية خلال السنوات الأولى للاستقلال مرورا بالسبعينيات وحتى الثمانينيات من القرن المنصرم.
فقد انطلق الراحل أحمد بوكماخ من المسرح إلى السياحة، وصولا إلى التدريس بالتعليم الابتدائي، وهو التعليم الذي يدين له بالفصل الكبير، لكونه من مؤسسي أولى لبنات النظام التعليمي بعد الاستقلال. فقد ولد أحمد بوكماخ في طنجة في عشرينيات القرن الماضي، وسط حرب الريف، فتوفيت والدته عندما كان يبلغ من العمر ثمان سنوات فقط، مما جعله يعيش طفولة صعبة، دفعته إلى العمل صغيرا جدا في متجر والده، الذي كان تاجر مواد غذائية ومنتجات استهلاكية، و كتب و روايات، هذه الأخيرة التي شكلت الشخصية المعرفية والثقافية للشاب بوكماخ من خلال مزاوجته بين العمل والدراسة.
وبعد سنوات ستؤمن شقيقته، حصول أحمد على مقعد في المدرسة القرآنية بالمسجد الكبير في مدينة طنجة، حيث سينهي تعليمه، ليصبح مدرسًا في نفس المدرسة التي درس فيها.
وأثناء بلوغه سن الــ 18، سيصبح أحمد عضوًا نشطا في حزب الشورى والاستقلال، مما سيزج بوالده في سجن لاحقا بالرباط بسبب نشاط ابنه السياسي المعادي للإحتلال، بسبب عثور السلطات الاستعمارية على لافتات تطالب بالاستقلال في متجر العائلة.
إذ خلال هذه الفترة العصيبة، سيصبح أحمد مسؤولاً عن عائلته، من أجل توفير احتياجات إخوانه الصغار وإدارة المتجر.
انطلق إبداع بوكماخ في الكتابة والتأليف قبل كراسة “إقرأ” التي اشتهر بتأليفها بزمن ليس بالقصير ، فما لا يعرفه الجميع، هو أن أحمد كان مؤلف مسرحيات في سنوات الأربعينيات. وبين “نور من السماء”، “رسالة فاس” و “فريدة بنت الحداد”، حاول بوكماخ من خلال مسرح “سيرفانتيس” بطنجة، أن يزرع روح الوطنية في الشباب و محبي المسرح. و لا زالت مؤلفاته المسرحية تؤثث أركان كتب العلامة عبد الله كنون، صاحب رائعة النبوغ المغربي، والذي كان الأب الروحي والمدرس والمؤطر لأحمد بوكماخ. مؤلفات هدفها كان بالأساس بث نفس الوطنية ودفع أهواء المستعمر من نفوس الأطفال المغاربة. كراسة “إقرأ”.. كتاب أجيال.
هذا، وعقب اختطاف أحد أصدقائه والمشاكل التي عانى منها حزب الشورى والإستقلال الذي كان منخرطا فيه و زواجه، قرر أحمد بوكماخ إنهاء انخراطه السياسي، الأمر الذي سيمنحه الكثير من الوقت لنشر الكتب وتأليفها، و رفقة عبد الله كنون، سيؤلف سلسلة كتب “إقرأ” بكل قصصها المستوحاة من قصص بالفرنسية والإسبانية والروسية والهندية والصينية . إذ إنطلقت الفكرة من إعداد دليل مدرسي باللغة العربية، يسهل تعليمه للطلاب في الفصول الدراسية، حيث أن معظم الكتيبات التي كانت متوفرة ومقررة آنذاك، كانت باللغة الفرنسية. ليصبح هذا الدليل، الذي طبعت نسخته الأولى عام 1954، أولى لبنات النظام التعليمي الابتدائي بطنجة، ومنه بالمغرب كله. وتتكون مجموعة “إقرأ” من خمسة كتب مدرسية، تدرس لمدة خمس سنوات من التعلم الإبتدائي، وفي نهايتها يفوز الطالب بديبلوم “الشهادة” الشهير آنذاك، ويفوز بتقدير أسرته و ربما حتى عملا في الوظيفة العمومية .
نظرًا لاستيراد المغرب للكتب المدرسية من مصر و لبنان، أصبحت سلسلة “إقرأ” أو “التلاوة” كما كانت تعرف لدة العموم، أساسًا للتعليم الابتدائى لعدة أجيال حتى ثمانينيات القرن الماضي.
ومع طبعات جديدة طبعت في 1956 و 1957 ثم 1958، كانت تستند إلى جمل قصيرة و مختصرة و تتسم بالكثير من السهولة، كما كانت تشكل الصور و الرسومات التي أبدعها رفيق دربه عبد السلام جسوس ، أدوات تبسيطية وتقريبية للتلاميذ، كما تعاون أحمد بوكماخ مع عدد من المثقفين المغاربة، منهم الرسام أحمد شبعة، ورسام الكاريكاتير أحمد الشنتوف.
ولم يكتف أحمد بوكماخ بأن يضع دليلاً واحداً لكل مستوى، يحتوي على عدة موضوعات مثل تعلم اللغة العربية والكتابة والقرآن، بل ابتكر عدة كتب مدرسية ، نشرها بعد سنوات قليلة من تأليفها، على غرار ”الفصحى” من خمسة مجلدات، و “الرياضيات” ثم “القراءة”. وهي كتب مدرسية تجمع بين القصص الرائعة والرسومات والصور لتحفيز فضول التلاميذ وتقوية ذكرياتهم البصرية.
وعلى الرغم من استبدال كتبه المدرسية بكتب تعليمية أخرى في وقت مبكر من الثمانينيات ، إلا أن الإصدارات الجديدة ، ولا سيما من سلسلة “إقرأ”، كانت لا تزال تُطبع حتى عام 2013 وربما حتى اليوم، حيث تستعمل في دروس محاربة الأمية.
ومهما يكن، فإن أجيالا من المغاربة مدينون بالعديد من القصص التي لازال تلاميذ وتلميذات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، يتذكرونها ، كأنها وشم أبدي في ذاكراتهم، وحنين معرفي لمقررات أحمد بوكماخ التي كانت وراء بناء أجيال لازالت تسمى لحدود الساعة بالأجيال الذهبية في تاريخ المؤسسة التعليمية المغربية المعاصرة .