البــطاطــا
محمـد الـقـنــور :
كان زميل صحافي قد سألني منذ أزيد من عقدين من السنين ممازحا عما كان إسم حبات البطاطس في العصور الإسلامية الأولى، فأجبته : لم تكن البطاطا معروفة لا في الجاهلية ولا في العصور الإسلامية، وبالتالي لم تكن تؤتث أصناف أطعمة الملوك والسلاطين، من بني أمية وهلم جراً يازميلي إلى فترة سلاطين بني مرين، قبيل وصول سفن كريستوف كولمب إلى البر الإمريكي سنة 1492، فهي من الخضروات التي جلبها المستكشفون الإسبان والبرتغاليين من العالم الجديد إلى العالم القديم ، فتبسم في وجهي ، وكأنه كان يضمر بسؤاله لي نوعا من تلكــ الأسئلة المقالب .
فأنهينا الكلام بيننا للحظات من الزمن ، وطفقنا نشرب القهوة صامتين محدقين ، ونحن نتابع من وراء زجاج المقهى ذاكـ الهطولُ المحتشم لقطرات المطر، إذ كانت تتساقط تلكـ القطرات مسترسلة ، رقيقة وخجولة ومتسارعة على إسفلت أحد شوارع حي المعاريف بالدار البيضاء .
ثم إنتبهتُ فجأة، وألمحتُ لزميلي أن البطاطا تسمى كذلكـ ، وأحيانا البطاطس، وذكرته بنص الرائد التربوي أحمد بوكماخ يرحمه الله، قالت الأم للولد كلي البطاطس فقال الولد … ، ثم إجتهدت في إشتقاق كلمة البطاطس، وبيان حرف السين في آخر كلمة البطاطا، في كونه حرف S الذي يدل على الجموع في اللغة الإسبانية وأنه حرف ينطقُ في آخر كل الجموع بالإسبانية ، وبمعظم اللغات اللاتينية ، وحتى في اللغة الإنجليزية البعيدة عن بنات عمومتها من اللغات اللاتينية المتطورة ، وأستطردتُ في كلامي : أن البطاطا لما عُربتْ كان ذلكـ على صيغة الجمع من الإسبانية، فنقل الإسم ونقلت معه تلكــ السين الدالة على الجمع في معظم اللغات الأوروبية .
ولأني ومن طبعي وعاداتي أن أميلَ إلى الفكاهة والدعابة مع بعض زملائي وزميلاتي،إستدركتُ على أن ما أصاب البطاطا، كان ترجمة حرفية وليس تعريبا، فالأحرى على مستوى التعريب أن تسمى البطاطا ، لا تفاح الأرض ، كما تنقل بترجمة حرفية .Pomme de terreوالبطاطا القصبية tremblement de terre … زلزال الأرض ،
وما دُمنا دوما على الأرض ، فليس هناكـ تفاح للأرض وتفاح فوق الضباب … ولكن للغات أحيانا مكر، يكون أشد وطأة من الثعالب والقنافذ جميعها
وطبيعيٌّ، فقد ضحكــ الزميل المحترم العزيز، من تعريبي للبطاطا القصبية، فضحكتُ لضحِكِهِ .
وعلى كل حال، فلو كان للخضروات فريق كرة قدم، لكانت البطاطا تتربع بكل إقتدار على كرسي الإحتياط ،لكونها تعوض الخبزمن جهة، ولكونها خُضَرَ من لا خُضر له، فهي تكاد تنافس الحنطة والشعير ، وترتفع عن البقول والقطاني، وهي مع كل هذا وذاكـ ، مغذية ، ومتواجدةً ، متواضعة وتكاد تكون ملائمة لكل الأذواق والأشداق والأطباق .
ومن أكثر الناس إرتباطا بالبطاطا، طباخو المطاعم الفرنسية، وعمال مناجم الفحم الحجري في أوروبا القرن التاسع عشر، وعشاق الأكلات الدسمة، وذوي الشهيات المفتوحة، وهواة الأكل في قاعات السينما وعلى مدرجات الملاعب ، وفي لوحات الهولندي الكبير فانسان فان كوخ، وباعة الوجبات السريعة في شوارع المدن المغربية، وأبطال إميل زولا في “جيرمينال” ، والطُهاة ممن يضربون أخماسا في أسداس، و”كولاكــ ” المنافي في سيبيريا في بدايات القرن المنصرم، وشحرورة الطرب العربي الفقيدة صباح، في تجاوز ما بين “البساطة البساطة” و “البطاطا البطاطا” ، وأولائكـ النِسوة ممن كُن بساحة جامع الفنا في مراكش يُدحسن البطاطا دحسا في أنصاف وأرباع “الخُبزات” إذ طالما في طفولتي ، التمستُ منهن قطرات من الزيت على البطاطا ….