‏”ماريا سيليستي” سفينة شبح أبحرت قبالة طنجة.. ‏

قصة السفينة الشبح بين الوقائع الحقيقية وتناول هوليوود ‏السينمائي ‏

ترجمــــة : محمــــد القـــنـــور : ‏

عن مجلة : ‏Reader’s Digest :

كان قد تم إكتشاف سفينة “ماريا سيليستي” في عرض المحيط الأطلسي وهي تبحر على غير هدى من أمرها , ‏تائهة وباردة ،خالية و مهجورة ،مرعبة وعملاقة ،اختفى قبطانها و بحارتها في ‏ظروف غامضة ، حيرت كل ‏الباحثين والمحققين ممن تناولوا أمر هذه السفينة، ومع انها كانت لا تزال في حالة جيدة ,ظلت تحوم حولها ‏الأسئلة والشكوك.‏
فيا ترى ماذا وقع لــ “ماريا سيليستي” السفينة التي ظلت جوهرة السفن التجارية خلال النصف الثاني من القرن ‏التاسع عشر، و ماذا حل بقبطانها وطاقمها ؟

‏سؤال ناهز عمره القرن و النصف من الزمان , لكنه لازال بدون ‏جواب لحدود الساعة , بل تحول إلى لغز من ألغاز البحار والمحيطات، وحكاية عجائبية من طلاسم السفن ، ‏ورغم عشرات النظريات و الفرضيات ‏التي حاولت تفسير لغز إبحار سفينة “ماريا سيليستي” في لجة الأمواج, ‏بلا بحارة ولا قبطان، بل الغريب انه كلما إزدادت التحليلات حول تيهها وملابسات طاقمها المختفي كلما ‏أغرقت في الغموض والتعقيد بسبب العديد من الخرافات و الأساطير التي ‏نسجت حولها وحول طاقمها على ‏مدى عشرات السنين.‏
‏ ولأن “هاسبريس” عودت قرائها على ترجمة مثل هذه الملفات من الصحافة العالمية ، ضمن “فسحة الأحد” ‏فإنها تسعد بتقديم مجمل الحقائق والحكايات والألغاز حول “ماريا سيليستي” السفينة الأكثر مدعاة لإستثارة ‏العقول والألغاز في التاريخ البشري .‏

من الغرابة إلى السينما

وكانت هولييوود قد تناولت قصة السفينة “ماريا سيليستي” بشيء من الإثارة، كعادتها الفنية، ضمن شريط ‏Ghost Ship‏ من بطولة نجوم السينما العالمية ، جابريل بيرني، جوليانا مارجوليز و “رون إلدار”.‏
حيث يجمع طيار كندي يدعى جاك فيريمان، فريقًا لاستطلاع أمر سفينة رُصدَت هائمة في منطقة نائية قبالة ‏سواحل ألاسكا، ليكتشف فريق الكابتن جاك أن السفينة الهائمة سفينة أسطورية ضاعت في البحار منذ أربعين ‏عامًا، ومن الممكن أن تجلب لهم حقوق إنقاذ السفينة الضائعة ثروة من المال، فيقرر الفريق أن يبلغ عن السفينة ‏بعد أن يعيدها إلى الشاطئ، لكن بعدما يدخل أفراد الفريق السفينةَ، سرعان ما يكتشفون أحداثًا غريبة مثل ‏أصوات منادية، وجثث تختفي وتظهر، وأشباح ومأكولات يستحود عليها الديدان.‏
ومع تطور الأحداث، يتأكد لأفراد الفريق أن هذه السفينة ملعونة ويسكنها شيطان أقوى من أي شيء واجهوه في ‏البحار طوال حياتهم.‏

طاقم غريب وإصطدامات متكررة

لقد كانت “ماريا سيليستي”هي سفينة شراعية ضخمة تبلغ حمولتها 282 طن , تم بنائها عام 1861 على ‏سواحل منطقة الكيبيك في كندا و سجلت هويتها، وأوراقها التعريفية كسفينة تجارية, والواقع، أنها كانت سفينة ‏شراعية جميلة و كانت على آخر طراز بمواصفات السفن العملاقة في القرن التاسع عشر الميلادي في زمانها ‏‏, لكنها ظلت في عرف البحارة ممن عرفوا قصتها، سفينة ملعونة ومرعبة، فخلال رحلتها البحرية الأولى , ‏لفظ قبطانها الكابتن “روبير ماكلاي” وهو ابن مالك السفينة , أنفاسه الأخيرة على سطحها نتيجة إصابته بأزمة ‏قلبية مفاجئة , و قد لازمها النحس في رحلتها اللاحقة بعد ثلاثة أيام من وفاة “روبير ماكلاي”، حيث ‏اصطدمت بقارب صيد.‏
و في أول رحلة لها عبر المحيط الأطلسي اصطدمت مرة ثانية بسفينة تجارية فرنسية داخل القناة الانكليزية ،‏ثم أبحرت لعدة سنوات كسفينة لنقل البضائع من و إلى الولايات المتحدة الإمريكية ودول أمريكا الجنوبية، و ‏في إحدى رحلاتها تلك تعرضت إلى عاصفة قوية فجنحت عن مسارها و أصيبت بأضرار بالغة ،و في عام ‏‏1868 بيعت إلى شخص أمريكي سجلها في نيويورك تحت اسم “ماريا سيليستي” ثم ما لبث مالكها الجديد، ان ‏باعها بدوره إلى مجموعة من الشركاء كان احدهم هو المستثمر”بنيامين بريدج” الذي أصبح قبطانها و أبحر ‏بها في عدة رحلات تجارية عبر المحيط الأطلسي.‏
في 5 نونبر 1872 أبحرت “ماريا سيليستي”من ميناء نيويورك،وكانت حمولتها حسب سجلات الميناء ‏تتكون من 1701 برميل من الخمور والنبيد الخام المشحون نحو ايطاليا،و كان طاقمها يتألف من عشرة ‏أشخاص هم القبطان “بنيامين بريدج” و زوجته “سارة” التي طالما رافقته في رحلاته البحرية , و ابنتهما ‏الصغيرة والوحيدة “صوفيا” ذات العامين،أما البحارة فكانوا أربعة بحارة ألمان وبحار دانماركي و بحاران ‏أمريكيان هم الطباخ و مساعد القبطان وكلهم بحارة من ذوي الخبرة والدراية بالمحيطات وأهوال البحار، ‏ومجابهة العواصف البحرية وجميعهم مشهود لهم بالكفاءة والإنضباط وحسن السلوك.‏

سفينة تائهة في عرض الأطلسي‏

بعد شهر كامل على إبحار سفينة “ماريا سيليستي”, أي في 5 ديسمبر 1872, كانت “ديا كراتيا”سفينة أمريكية ‏أخرى تمخر عباب المحيط الأطلسي باتجاه أوربا تحت إمرة القبطان ديفيد “مورا هاوس” و هو زميل متمرس ‏وحميم قديم للقبطان “بنيامين بريدج” , و لم يكن يتوقع أبدا ان يلتقي بالسفينة “ماريا سيليستي”في عرض ‏المحيط الأطلسي لأنها كانت قد انطلقت في رحلتها قبل ثمانية أيام على إبحاره , لكن بينما كان القبطان “مورا ‏هاوس” يبحر بسفينته في المحيط الأطلسي على بعد 600 ميل إلى الغرب من البرتغال ، لمح بحارته سفينة ‏مجهولة، يكتنفها الضباب على مسافة حوالي الخمسة كيلومترات من سفينتهم،وعندما نظر القبطان “مورا ‏هاوس” إليها بواسطة منظاره المقرب شعر بشيء غير طبيعي في طريقة إبحارها،كان شراعها في وضعية ‏غير صحيحة و كانت تتأرجح في حركتها و لم يظهر أي شخص على سطحها ،لذلك أمر القبطان”مورا ‏هاوس” بحارته بالتوجه نحو السفينة المجهولة.‏
وعندما اقترب بحارة “مورا هاوس” منها بدرجة كافية اكتشف بحارة القبطان “مورا هاوس”ان السفينة ‏المجهولة لم تكن سوى ” ماريا سيليستي”،سفينة زميله القبطان بينيامين بريدج، التي كان من المفروض ‏حسب عقدات سرعتها المعروفة ، أن تكون مبحرة أمام مشارف مدينة طنجة المغربية، أو قرب مضيق جبل ‏طارق.‏
مما جعل القبطان “مورا هاوس” يجزم أن السفينة “ماريا سيليستي” قد تعرضت لمشكلة ما، لذلك قرر إرسال ‏احد بحارته الشجعان ليصعد على متنها و يعرف ماذا حل بها ,وهو البحار ” ألبرتو لافاريطا” الذي توجه نحو ‏‏”ماريا سيليستي” بقارب صغير ثم تسلق إلى سطحها.‏
غير أن القبطان “مورا هاوس” سرعان ما تبع ” ألبرتو لافاريطا” في قارب آخر ، رفقة معاونين له، فكان أول ‏عمل قام به “لافاريطا”، رفقة البحارين الإثنين ممن كانا برفقته هو التحقق من مضخات السفينة فوجد ان احد ‏المضخات مازال يعمل أما المضختين الأخريتين فكانتا مفقودتان, و خلال تفتيش “لافاريطا” للسفينة لم يعثر ‏على أي شخص , ولا على أية جثت ، فقد كان الجميع قد اختفى , كما ان قارب الإنقاذ الوحيد في السفينة اختفى ‏بدوره , بل أن الساعة كانت متوقفة والبوصلة محطمة في قمرة القيادة، وكانت معظم الأدوات الملاحية ‏الصغيرة التي تستعمل لتحديد موقع السفينة، وقياس سرعتها، قد اختفت كما أن جميع أوراق السفينة ، ‏وسجلات الرحلات كانت مفقودة باستثناء دفتر القبطان الذي يسجل فيه الملاحظات حول الرحلات .‏
وذكر القبطان “مورا هاوس” بعد ذلك، لسائليه أثناء التحقيق، أن أخر ملاحظة كتبها قبطان السفينة كانت تعود ‏إلى يوم 25 نونبر أي قبل عشرة أيام من إكتشافها, كما كانت بقية غرف و قمرات ممرات السفينة بحالة جيدة ، ‏إلى ذلك، فإن أغراض الطاقم الشخصية بقيت متروكة في مكانها و ملابسهم مرتبة و يابسة , ومئونة السفينة ‏من الطعام و المياه سليمة، وفي حالة جيدة مما يدل على أن كل طاقم السفينة كانوا قد تركوها بسرعة ، وعلى ‏عجل من أمرهم، دون حتى ان تتاح لهم فرصة أخذ أي شيء منها معهم , و في المخزن الرئيسي للسفينة كانت ‏الحمولة من براميل النبيذ سليمة و لم يتسنه طعمها , و لدى معاينته للجزء الخلفي من السفينة اكتشف القبطان ‏‏”مورا هاوس” حبلا متينا و عملاقا كان قد تم ربطه بإحكام إلى مؤخرة السفينة أما طرفه الأخر فكان يتدلى ‏خلفها مثل ثعبان أسطوري مخيف سابحا في مياه المحيط الأطلسي لمسافات طويلة.‏

‏”ماريا سيليستي” و حكاية اللغز المحير

ومهما يكن، فإن السفينة “ماريا سيليستي” كانت في عمومها فارغة من أي بصيص للحياة، ولكنها بصورة ‏جيدة، حتى أنها حسب نفس القبطان “مورا هاوس” لم تكن تواجه أية مخاطر للغرق رغم أنها كانت مبللة و ‏رطبة و يغطي الماء قاعها بارتفاع النصف متر تقريبا.‏
والحق، أن القبطان “مورا هاوس”أخذت منه الشكوك كل مأخذ، ولم يصدق أن صديقه القبطان “بنيامين ‏بريدج” ذو الخبرة البحرية الطويلة يمكن أن يترك سفينته في عرض المحيط الأطلسي بهذه الحالة , ودون ‏سبب واضح وجلي، ويغادرها إلى وجهة لاتزال غير معروفة إلى الآن، لذلك أرسل بحارة آخرين ليتأكدوا مما ‏رأه السابقون، فترأس بعثتهم نحو السفينة اللغز “ماريا سيليستي” نائبه “اوليفر ديافيو” , و قد عاد هؤلاء بعد ‏قرابة أربع ساعات ليؤكدوا نفس كلام السابقين، وليخبروه أنهم لم يجدوا أي آثار للعنف ولا للفوضى على ‏سطح السفينة ، بل أن جميع محتويات السفينة كانت سليمة , و هو الأمر الذي يلغي تماما فرضية تعرض ‏‏”ماريا سيليستي” للهجوم من طرف القرصنة.‏
هذا، وبأمر من القبطان “مورا هاوس”قام عدد من بحارة ديا كراتيا بقيادة السفينة “ماريا سيليستي”حتى ‏أوصلوها إلى ميناء جبل طارق الخاضع ولايزال للسلطات الانكليزية , و فور وصول السفينة “ماريا ‏سيليستي” إلى الميناء قامت وزارة أعالي البحار البريطانية ، التي كانت وإلى الآن تحتل جبل طارق كما سبق، ‏بتشكيل لجنة تحقيق لكشف ملابسات اختفاء طاقمها .‏
هذا، و قد خلصت هذه اللجنة بعد الفحص والتدقيق و التمحيص و المعاينة إلى انه لا توجد هناك أي آثار ‏للعنف تدل على تعرض السفينة للقرصنة كما أن حمولتها و أغراض طاقمها كانت سليمة لم تمس , أما اختفاء ‏الركاب فلم تجد اللجنة أي مبرر له، ولا تفسير لأسبابه , مما دفع السفير الأمريكي في جبل طارق إلى زيارة ‏السفينة بنفسه لأنها كانت تحمل رعايا الولايات المتحدة الإمريكية ، قبل أن يطلع حكومته عن الحادث فقامت ‏وزارة الخارجية الأمريكية بدورها ببعث برقيات إلى جميع سفاراتها حول العالم لأجل الحصول على أي ‏معلومات تدل على مصير طاقم السفينة , لكن بدون جدوى فطاقم السفينة “ماريا سيليستي”كان قد اختفى دون ‏أن يترك أي مؤشر عن إختفائه ‏
نعم، إختفى إلى يومنا هذا، وكأن قوة قد إختطفت الركاب العشرة إلى الأبد.‏

بين النكبة وحكايات أغرب من الخيال‏

وبالتدريج جذبت حادثة “ماريا سيليستي”انتباه المؤرخين والباحثين والصحافة والأدباء وكتاب السيناريوهات , ‏ومخرجي أشرطة السينما و بما أن القصص الغريبة و حكايات الألغاز والأشباح كانت تستهوي الناس من ‏القراء والقارئات في ذلك الزمان , وفي هذا الزمان فقد تمت وضع وفبركة العديد من الحكايات والأكاذيب و ‏إضافتها إلى الأحداث الحقيقية التاريخية التي واكبت ملابسات هذه “السفينة اللغز”, و ربما تكون كتابات ‏الأديب “آرثر كونان داولي” , مؤلف قصص شارلوك هولمز , هي الأكثر مساهمة في إضفاء صبغة من ‏الخيال على الوقائع الحقيقية , فقد ذكر في إحدى قصصه التي تناولت الحادثة بأن بحارة السفينة المعروفة “ديا ‏كراتيا” الذين صعدوا إلى سطح “ماريا سيليستي”لأول مرة، عندما وجدوها في عرض المحيط الأطلسي ، ‏تائهة وخاوية على عروشها، بعد إختفائها بسنوات ، وليس بأيام كما هي الحقيقة، وجدوا الطعام موضوعا على ‏المائدة ، وكان لايزال ساخنا، وشهيا، كان لا يزال طازجا كأنه اخرج من المطبخ لساعته، كما كانت القهوة ‏المسكوبة في الأكواب لا تزال حارة يتصاعد منها البخار، وعبق نكهة البن، وهو ما أكد أن “السفينة شبح، ‏وأنها مسكونة بأرواح بحارتها وعمالها وقبطانها وروح كل من زوجته وإبنته.‏
والواقع، الذي قد أؤكده للقارئات والقراء، ضمن فسحة هذا الأحد على “إسبريس ” هو أن الكاتب الشهير ‏‏”كونان دولي” كانت له اهتمامات روحانية، وطبعت أعماله حضور المقتضيات الخيالية، والنوازع الماورائية ‏التي امن بها بعمق، والتي إزدادت بعد تقدمه في السن وبعد وفاة زوجته و ابنه الشاب , وليس بعيدا أن يكون قد ‏تأثر بشكل كبير بما عاشه، وسكب لواعج وجداهأ الحزين أثناء تناوله لموضوع السفينة “ماريا سيليستي”, ‏خصوصا وأن بحارة السفينة “ديا كراتيا” ممن صعدوا على متن السفينة “ماريا سيليستي ” أكدوا في مذكرات ‏بعضهم، وأثناء مساءلتهم من طرف الصحافة اللندنية والإمريكية في مدينة نيويورك، أنهم لم يجدوا أي طعام ‏مطبوخ على سطح السفينة و لم تكن هناك أي روائح لا للقهوة ولا لأي مشروبات سائلة أخرى مسكوبة في ‏الأكواب , بل أكدوا أن مطبخ “ماريا سيليستي”كانت تسوده الفوضى، وبدأ يعلو أوانيه الصدأ ، وكانت صحونه ‏وكؤوسه وأفاريزه مهشمة نتيجة تقاذف أمواج المحيط الأطلسي للسفينة .‏

رحيـــل طـــاقم وفرضيات مُـحتـملة ‏

وخلال ما يناهز القرن و النصف من الزمان , لم يعثر على أي اثر لطاقم السفينة “ماريا سيليستي” التي كنت ‏مفخرة الإبحار في البحار المغلقة والمحيط الأطلسي ، وكانت على مسافة زمنية تتجاوز خمسة عقود من القرن ‏الثامن عشر، ولم تنافسها في سمعتها بعد ذلك، سوى “التيتانيك”كباخرة ركاب وشحن، والتي يعرف الجميع ‏قصة غرقها، والتي إستطاع المخرج الإمريكي “جيمس كاميرون” أن يحولها إلى شريط سينمائي مميز ومؤثر ‏بدراميته، شاهده الملايين من مختلف بقاع العالم وتأثروا لتلك القصة الغرامية التي ربطت مسافر شاب متسكع ‏، مهاجر لتحقيق حلمه الإمريكي مع فتاة برجوازية غارقة في مقاييس ونظم وأساليب المجتمعات المخملية ‏البرجوازية اللندنية .‏
وعودة للسفينة اللغز “ماريا سيليستي” ، فإن أحدا لم يسمع عنها وعن بحارتها وعن القبطان “بينيامين بريدج” ‏أي خبر مجددا حتى يومنا هذا , إذن ماذا حل بهم ؟ و لماذا اختفوا ؟ هل حقا اختطفتهم مخلوقات فضائية أم ‏ابتلعتهم كائنات بحرية مجهولة خرجت من قاع المحيط الأطلسي ؟ أم دخلوا بعدا زمنيا أخر ؟ كل هذه ‏السيناريوهات طرحها عشاق قصص ما وراء الطبيعة ،لكن مع الأسف لا يوجد أي إثبات لها , و في المقابل ‏هناك العديد من النظريات و الفرضيات المنطقية التي حاولت تفسير ما حدث.‏

أول هذه التفسيرات كانت تعتقد ببساطة بأن السفينة تعرضت للقرصنة،لكن بقاء أغراض الطاقم و حمولة ‏السفينة سليمة لم تمس تلغي نظرية القرصنة تماما , ثم نظرية أخرى اتهمت طاقم سفينة “ديا كراتيا” بأنهم هم ‏من دبروا الحادث لغرض الحصول على جائزة الإنقاذ التي كان القانون يمنحها على شكل نسبة من قيمة ‏السفينة التي يتم إنقاذها , لكن هذه النظرية لا تصمد بدورها أمام التحليل المنطقي , فقبطاني السفينتين كانا ‏صديقين قديمين و تربطهما علاقات حميمية وطيدة كما أن”ماريا سيليستي”كانت قد أبحرت قبل ثمانية أيام من ‏إبحار السفينة “ديا كراتيا” فكيف تمكنت هذه الأخيرة من اللحاق بها , ثم لماذا لم يعثر على أي آثار للعنف ‏داخل”ماريا سيليستي”؟ , ثم هل يعقل ان يكون طاقمها قد تعرضوا للقتل دون ان يبدي أي شخص منهم أي ‏مقاومة؟.‏
في حين تعتقد تفسيرات أخرى أن الحادثة هي مسرحية تم تدبيرها من قبل القبطان “بينيامين بريدج” من اجل ‏الحصول على مبلغ التأمين على السفينة , لكن هذه النظرية لا تصمد أمام حقيقة ان مبلغ التأمين على السفينة و ‏حمولتها كان ضئيلا كما أن السفينة و حمولتها كانت سليمة لم تمس , أضف إلى هذا أن القبطان بنيامين بريدج ‏كان مجرد شريك يملك حصة في السفينة و ليس مالكها الوحيد.‏

تمرد مُفاجئ أم خـمـر مــسمــوم ‏‏ ‏

إلى ذلك، فهناك تفسيرات أخرى لاقت رواجا , و هي ان “ماريا سيليستي” تعرضت لعاصفة هوجاء فخشي ‏القبطان بينيامين بريدج ان تغرق سفينته و أمر الطاقم بإنزال قارب النجاة ثم أبحر مبتعدا عن السفينة العملاقة, ‏و مما يدعم هذه النظرية هو أن السفينة كان مبللة ساعة اكتشافها و كان الماء يملئ جوفها بارتفاع نصف متر ‏تقريبا كما كانت اثنتان من مضخاتها قد اختفت , و لكن من ناحية أخرى فأن مستوى الماء في السفينة لم يكن ‏يهدد السفينة بالغرق , صحيح انه كان أكثر من المعدل الطبيعي لكن قبطان ذو خبرة طويلة مثل بينيامين بريدج ‏كان يعلم تماما ان هذه الكمية لم تكن تهدد سلامة السفينة و أنها كانت لا تزال صالحة للإبحار , ثم ان تقارير ‏الأرصاد لم تذكر حدوث أي عاصفة خلال الفترة التي أبحرت فيها “ماريا سليستي”. و بالإضافة إلى نظرية ‏العاصفة هناك نظريات مشابهة تفترض تعرض السفينة لزلزال أو إعصار أو تسونامي بحري. ‏
فيما ذهبت إجتهادات أخرى إلى الاعتقاد بأن بحارة “ماريا سيليستي” تمردوا على القبطان , ربما تحت تأثير ‏إحتسائهم لكميات كبيرة من الخمور والنبيذ التي كانت بالبراميل , فقتلوه هو و زوجته و طفلته و فروا إلى جهة ‏غير معلومة, لكن السؤال، هو ن مثل هذا الإجتهاد ينفيه أن بحارة “ماريا سيليستي” كانوا من الأشخاص ‏المعروفين والمحترفين و المشهود لهم بحسن السلوك والإنضباط لأوامر القبطان “بينيامين بريدج” , كما انه ‏على إفتراض أن هذه الإجتهاد صحيح، يظل السؤال المطروح عالقا حول لماذا ترك البحارة ممن كانوا على ‏السفينة وأغراضهم وملابسهم وحتى براميل المياه الصالحة للشرب و حاجياتهم الشخصية من أدوية وأطعمة ‏على السفينة في عرض المحيط الأطلسي ، ولم يأخذوها معهم .‏

مصير مرعب وأسئــــلة عـــالـــقــة  ‏‏ ‏

ويظل التفسير الأكثر قبولا ,هو ذاك التفسير الذي يزعم أن القبطان “بنيامين بريدج” لم يكن مرتاحا لنقل حمولة ‏كبيرة من الخمور والنبيذ بسبب خوفه من حدوث تسرب يؤدي إلى انفجار مدمر , و هو بالضبط ما يعتقد ‏حدوثه , إذ عثر الحمالون من البحارة على ظهر “ماريا سيليستي” على تسعة براميل فارغة عند إنزالهم ‏لحمولة السفينة في ميناء جبل طارق, و كانت جميع البراميل الفارغة مصنوعة من خشب البلوط الأحمر فيما ‏كانت بقية البراميل مصنوعة من خشب البلوط الأبيض ، وهو الخشب الأكثر قوة و تماسكا , و قد يكون انتشار ‏رائحة الخمور والنبيذ المتسرب من البراميل قد أصاب القبطان بالذعر فشعر أن السفينة على وشك الانفجار ‏لذلك قام على عجل بجمع بعض الأدوات و الأوراق من قمرة القيادة ثم أمر البحارة بإنزال قارب النجاة و صعد ‏الجميع اليه بسرعة , لكن القبطان المتمرس لم ينس ربط قارب النجاة الصغير إلى مؤخرة السفينة بواسطة حبل ‏الشراع المثين و العملاق و ذلك للعودة إليها في حالة زوال الخطر و عدم حدوث انفجار , لكن لسوء الحظ يبدو ‏أن القبطان و بحارته و لسبب ما افلتوا الحبل الذي يربطهم بالسفينة فتاهوا في المحيط الأطلسي الواسع حتى ‏ماتوا جوعا و عطشا أو ربما انقلب قاربهم الصغير و ابتلعتهم الأمواج.‏
و رغم منطقية هذا التفسير إلا أنها لم ينج من الانتقادات , فعلى سبيل المثال لم يذكر أي شخص ممن صعدوا ‏إلى “ماريا سيليستي”من طاقم القبطان “مورا هاوس” بعد الحادث بأنه شم أي رائحة كحول داخل مخزن ‏السفينة , و بالنسبة للبراميل التسعة الفارغة فهناك احتمال أن يكون شخص ما قد قام بسرقة محتوياتها أثناء ‏توقف السفينة لعدة شهور في جبل طارق أو أثناء نقل الحمولة إلى ايطاليا فيما بعد تحت إمرة قبطان و بحارة ‏جدد .‏

الخلاص النهائي من لـــعــنة البــحــار ‏

لقد ظل مصير سفينة “ماريا سيليستي” بعد الحادث مصدر الكثير من التساؤلات والتفسيرات والنظريات، فيما ‏إذا فارقها النحس الذي رافقها لسنوات طويلة ؟ ولكن الجواب كان بالنفي , إذ لم يفارقها النحس ، ولم تبتعد ‏عنها اللعنات، فالسفينة حسب ما يبدو من خلال سيرة عملها البحرية ، كانت محاصرة باللعنات و كل أنواع ‏الشؤم والنحس منذ أول يوم أبحرت فيه فوق الماء , ففي رحلة العودة إلى الولايات المتحدة الإمريكية بعد ‏الحادثة ، تعرضت السفينة إلى عاصفة مات على أثرها والد مالك السفينة صاحب الحصة الأكبر في الشركة ‏المديرة للسفينة ، بعدما سقط من سطحها في المحيط، لذلك قرر وريثه بيعها و التخلص منها بأي ثمن , و قد ‏باعها بالفعل و بأقل من سعرها الحقيقي بكثير , و في الثلاثة عشر سنة القادمة بيعت “ماريا سيليستي”من ‏شخص لأخر سبعة عشر مرة , و يبدو أن مالكها الأخير , هو القبطان “جي سي باركر” , كان قد اشتراها فقط ‏ليغرقها و يحصل على مال التأمين,على طريقة أغلب الإمريكيين في التخلص من إستثماراتهم المتعبة، فنفذ ‏خطته في البحر الكاريبي بالقرب من سواحل جزر هاييتي، إذ حاول إغراقها عن طريق تحميلها بأكثر من ‏طاقتها , لكن المصيبة الجلل هي أن “ماريا سيليستي”رفضت أن تغرق رغم كل محاولات المستر”باركر”.‏
‏ وفي النهاية , وبعد أن فقد أعصابه قرر حرقها، لكنها رفضت أن تحترق أيضا فتخلى عنها “باركر”وهو يلعن ‏اليوم الذي رآها فيه, ثم تقدم إلى شركة التأمين مطالبا بالتعويض و مدعيا غرق السفينة إلا إن الشركة اكتشفت ‏خدعته، وإتهمته بنهب المال العام، وتضليل القانون والعدالة ، بعد تقرير لجنة بحث وتقصي فالقي بـــ “باركر” ‏المسكين في السجن ثم مات في زنزانته في ظروف غامضة قبيل انعقاد محاكمته، بأيام قلائل !! ‏
‏ و بعد الوفاة المأساوية لــ”باركر”مالكها الأخير ظلت “ماريا سيليستي”قابعة في مكانها لسنوات طويلة , ‏مهجورة ومرعبة، إذ لم يعد احد يرغب في هذه السفينة الملعونة فتركت حتى تحللت بالتدريج بفعل عوامل ‏التعرية البحرية، وإفتراس الأمواج لهيكلها ، قبل أن تغوص في لجة البحر .‏

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.