“حــق الله” : مآسي عن معاناة الأرامل البيضاء

الأرملة حسب منظومة “حق الله” تعيش مسكينة، مُحاصرة بين التقاليد ومنبوذة دون احترام أو مساندة …

مـحـمـد الــقـنــور :

كان عمر “ليلى” 25 عاما،حين توفي زوجها مدير عام بإحدى شركات البناء، بسبب حادثة سير، على الطريق الرابطة بين مراكش و وارزازات، ليتركها دون أبناء، تقطن في فيللا باذخة،تزيد من أبهة جمالها وقوة شبابها وعنفوانية أناقتها،إجتمعت عائلة الزوج المتوفى حول جثمانه بباحة الفيللا ، أشقاؤه وشقيقاته، أبناء عمومته، وقبل إخراج الجثمان إلى “دار الله” المقبرة ، عمدت والدة الزوج الراحل، إلى دعوة “ليلى” أن تلبس”حق الله”، الثياب البيضاء والحذاء الأبيض، كما تنص على ذلكـ التقاليد والأعراف.

تروي “ليلى” قصة حياتها المليئة بالمضايقات والحصار من طرف أشقاء زوجها بمرارة ، والدموع تسيل من عينيها، وتحكي وهي تبلغ الآن 35 عاما، كيف كانت تتعرض لكل أنواع الإهانة والإساءة، وكيف إعتبرتها عائلة زوجها مصدر شؤم وشر، إذ “لو كان فيها خيرا، لما ترملت وهي في سن الشباب”.
ذات صباح، وهي في فترة “حق الله” التي تستمر لمدة أربعة شهور وعشرة أيام، أخبرها شقيق زوجها الأصغر،أن عليها الإستعداد وجمع أغراضها لمغادرة الفيللا،وتدبر أمرها، فلديهم ووالدتهم حقوق شرعية في المنزل،حسب المنصوص عليه في الشريعة.
وتضيف “ليلى” أن أكثر من أربعة شهور، قضتها “ليلى” في منزل والديها وهي ترتدي “حق الله”، كانت تشعر كأن اللون الأبيض الذي ترتديه، يخنقها ، يضع القيود على تحركاتها اليومية ويجعلها تحت المراقبة من طرف الجميع، ولا يجلب لها أدنى إحترام من الآخرين، أكثر مما هو علامة على الوصم والتمييز،في الأوساط وأثناء الخروج للشارع، وأن ثيابها البيضاء تنعها بحكم التقاليد المغربية من الدخول لبيوت الزوجية، لكونها نذير شؤم على الرجال بهذه البيوت، فمتى ولجت أرملة بلباس حق الله، إلا ويتوفى رب البيت”، تلكــ هي المعتقدات السائدة حول “حق الله”، طقس تقول ليلى “ليس فيها من معنى سوى الإسم”.

أما “خديجة” البالغة 70 عاما ، والمنحدرة من إحدى الدواوير المجاورة لمدينة مراكش، فإنها تصرح أن أولادها الثلاثة تخلوا عنها بعد وفاة زوجها، عامل الفلاحة المياوم بإحدى الضيعات المجاورة،وبعدما تصدق عليها محسنون من الدوار المجاور للضيعة، بجلباب وحذاء أبيضين من أجل “حق الله”، ثم رحلت بعيدا عن كوخ الضيعة،بأمر من صاحب الضيعة، إلى أقرباء لها لم تجدهم بمدينة الصويرة، حيث قضت في “مدينة الرياح”هناكــ أياما وليالي في العراء تتسول، إلى أن أوصلها بعض سائقي الشاحنات إلى دار للبر والإحسان بمراكش .
ورغم أن معاناة “خديجة” تبدو أكثر ألما،وضياعا، فإنها تزوجت في عمر 16 عاما من زوجها الراحل الذي كان يبلغ الأربعين سنة، وحين مات لم يهتم بشأنها أحد، ولا حتى أبناءه من زوجة سابقة، ممن كانوا الخاضعين لسلطة زوجاتهم،ورازحين تحت وطأة البحث عن لقمة العيش، وترى خديجة الآن أن الموت للأرملة الفقيرة خصوصا، أفضل من حياة التهميش والغمز واللمز، على الأقل لتتخلص من جحيم المعاناة.

في حين تصرح “لمياء” الشابة الحسناء والأرملة الحزينة ، البالغة من العمر 34 سنة ، والأم لطفلة 11 سنة وطفل 3 سنوات، أن إنتحار زوجها وكيل الأسفار بسبب تفاقم الضرائب والديون عليه في ظل جائحة كورونا كوفيد 19، ودخولها للباس حق الله ، حسب الأعراف،والتقاليد، عرضها لمحاولات من التحرش وصلت لحدود الشروع في الاغتصاب من قبل أحد أفراد عائلة زوجها، وقد فضلت السكوت خوفا من السمعة السيئة والتهديدات التي يمكن أن تتلقاها.
وتضيف “لمياء” أن بعض الرجال لايحترمون لباس “حق الله الشرعي”، كما لايحترمون ماتنص عليه “القيم الدينية الإسلامية”، وتضيف، أن الأرملة متى كانت شابة ، فإنها توصف حسب المثل المغربي بــ “دجاجة بكامونها” .. خصوصا، إذا كانت في وضعية مريحة ماديا، تشتم فيها رائحة الأموال .
وتتساءل “لمياء” حول الفائدة من إرتداء الأرامل للزي الأبيض، طيلة فترة العدة، حيث ترى أنه ليس سببا للإحترام والتقدير، بل هو مجرد دعوة للتحرشات وإدعاء المواساة الكاذبة ووازع لعرض المساعدة الزائفة من طرف بعض الرجال،إن لم تكن دعوة لإحتساء فنجان قهوة أو مشروب،كما حدث لها شخصيا، وتقول أن لباس “حق لله” ليس له علاقة لا بالإحترام ولا بالحشمة أو الوقار.
وتستطرد “لمياء” أنها اضطرت لتفادي الذهاب للكثير من الفضاءات العمومية وبعض الإدارات بسبب ضغوطات التقاليد الإجتماعية،وشيوع الثقافة الذكورية لدى بعض الرجال وحتى النساء ، فأغلب هؤلاء في المجتمع المغربي،لا يرغبون في مساعدة الأرامل، أكثر مما يميلون للتنمر عليهن، التحرش بهن، وأحيانا عرض المساعدات ذات المقابل المعروف .
وتتساءل “لمياء” في إستغراب، ” هل حق الله، هو أن ألبس الكفن الأبيض من القدمين إلى غطاء الرأس،مثل “طير البقر” ؟ كفن في الحياة ، ثم هل هناكــ نص قرآني أو ديني يلزمني بهذا الزي الخانق والواصم ؟ ألا يحق للأرملة بعد وفاة الزوج، أن تلبس الملابس الملونة أو أن تتزين بالأساور والحلي، أم عليها أن تبقى فقط مومياء “بيضاء” ومحرومة من حريتها الفردية ، موصومة بكل المناسبات الاجتماعية في أكثر الأحيان.

الزيارات الضرورية وباقة النعناع اليانعة…

وعن طقس “حق الله” تتردد الحاجة الباتول، البالغة من العمر 72 سنة كثيرا، قبل أن تعلن أنها لبست حق الله مرتين، أثناء وفاة زوجها الأول، الذي عاشت معه لفترة تقارب الأربعة سنوات، ولم تنجب معه، حيث كان يعاني من مرض عضال،لم ينفع معه علاج، فإلتزمت بأخذ “حق لله” وهي لاتزال شابة لم تتجاوز العشرين من عمرها،بعدما خضعت لرقابة والديها،وأشقائها، وبعد ما يزيد عن عقد من مكوثها كأرملة ، تزوجت إبن عمها،لتجنب إبن وثلاث بنات، قبل أن يتوفى زوجها الثاني، نتيجة نوبة قلبية.
كما لاتخف الحاجة الباتول ، أن حق الله يمنع المرأة من عدة ممارسات قد تبدو للآخرين عادية ومعتادة، على غرار الخروج ليلا، أو قضاء بعض المآرب، أو حتى الدخول لبعض الأسواق والمتاجر المختصة في بيع العطور والحلي والأقمشة، أو الإندماج ولو قليلا داخل بوثقة الحياة المجتمعية، من قبيل حضور الحفلات وحتى المآتم أو مشاهدة التلفاز، أو الإستماع للطرب عبر المذياع .

وتؤكد الحاجة الباتول،أن على المرآة اللابسة حق الله أن لا تزور بناتها و أبنائها أو أقاربها وصديقاتها خصوصا المتزوجات منهن، لأن مجرد دخولها لمنازلهن، يعتبر ندير شؤم قد يودي بحياة الأزواج، وإذا ما تحتمت عليها زيارة لمنزل أحد بناتها أو أبنائها للضرورة الملحة، فإن لأرملة”الآخذة بحق الله” يمكن أن تحمل معها باقة نعناع خضراء يانعة، لتدفع شؤم اللباس عن البيوت التي تزورها .

وحسب التقاليد المغربية، فإن الأرملة لاتشيع جثمان زوجها إلى المقبرة، مع المشيعيين، فالجنائز ومراسيم الدفن ذكورية مئة في المئة، وإن كانت هذه الأرملة تلزم بإرتداء “حق الله”، الثياب البيضاء، قبل إخراج جثمان الزوج الراحل من البيت، وإن كان يحق لها زيارة قبره في اليوم الموالي للدفن، رفقة العائلة في ما يُعرف بــ “صباح القبر” ..

كما قتلتِ الأولَ ستقتل الثاني لا محالة

وحول “حق الله” وإلزام المرأة بإرتداء الأبيض من الرأس إلى أخمص القدمين، لاتزال تنتشر طقوس ومعتقدات، ببعض المدن وخصوصا بالعالم القروي في المغرب، تُنصح النساء الأرامل البيضاء بعدم الخروج إلى الفضاءت المفتوحة،بما فيها باحات منازلهن،”حتى لاتراهن النجوم” مما قد ينتج عنه لعنات وكوارث تحيق بها وبمحيطها الأسري، كما يستحسن تجنب الضحك أو حتى الإبتسام أو الكلام مع الذكور من الغرباء، في حين يجمع الغالبية أن النساء ممن يرفضن إرتداء “حق لله” فإنهن يتحولن إلى “بغلات قبور”بعد وفاتهن،وأنهن يخرجن من قبورهن ليلا يجرجرن السلاسل، وتطاردهن ألسنة اللهب.

هذا، ولا يزال العديد من الأفراد في مختلف المناطق، خصوصا القروية منها، يؤكدون أنهم شاهدوا “بغلة القبور”،أو إلتقتهم، أو حتى تعقبت خطواتهم .

كما أن الأرامل ممن لا يرتدين”حق لله”لا يستحقن الاحترام ويعيشن منبوذات خصوصا في الأوساط الشعبية،وبمناطق العالم القروي، حيث يعتبرن رمزا للنحس،ولنكران العشرة الزوجية والوفاء، وكلما كان زوجها المتوفى قد غادر عالم الأحياء إلى دار البقاء شابا أو في عمر مبكر نسبيا،فإن محيطها من الآخرين كثيرا ما يتجنب الاقتراب منها، بل في أحيان كثيرة، لا يحق لها الزواج مرة أخرى، لأنها “كما قتلت الأول ستقتل الثاني لامحالة” .

وموازاة مع هذه الطقوس والمعتقدات، فعادة ما تحرم النساء الأرامل وخصوصا الأميات منهن، من حقهن في الميراث، نتيجة تضليل العدالة، أو التلاعبات التوثيقية أو إستغلال الثغرات القانونية،التي تُحاكـ في فترة “حق الله”،من قبيل بعض الورثة، للسطو على المعاملات التجارية والإيداعات المصرفية أحيانا للزوج الهالكـ ، أو إلصاق تبعاته الضريبية على الأرملة وحدها من طرفهم، مما يدفع بغالبيتهن إلى العيش على هامش الحياة، تحت هواجس تغريمهن، أو الزج بهن في السجن.

وقد تضطرُ بعض الأرامل بفعل هذه التلاعبات وعمليات النصب وآليات الإحتيال الصادرة عن الطرف الثاني المذكور من الورثة إلى ترك بيوتهن الزوجية السابقة، والعودة لكنف أسرهن، أو يجبرن على العيش في الملاجئ، ودور العجزة، بعد أن يكنن قد أجبرن على إرتداء “حق الله” وتم عزلهن على تبعات وإجراءات تصفية التركة، أو يدفعن بحكم الحاجة إلى تجارة الجنس أوالوساطة فيه ،وذلكــ حسب السن، من أجل المال .
وفي غياب جمعيات المجتمع المدني التي تهتم بالأرامل المنكوبات، فإنه ومنذ “فترة حق الله” فإن العديد من الأرامل، كثيرا ما يكن عرضة لأنواع متعددة من الاستغلال حتى في بعض الملاجئ التي يفترض فيها أن توفر لهن الحماية والأمان، حيث يزداد الخطر كلما كانت الأرملة شابة وأمية.

“حق الله”بين النص الديني والموروث الثقافي

وحول حقيقة اللباس الأبيض الذي ترتديه النساء الأرامل طيلة أيام العدة، يؤكد الدكتور محمد عز الدين المعيار الإدريسي،عضو المجلس العلمي الأعلى للمغرب،ورئيس المجلس العلمي المحلي لمدينة مراكش، أن الإسلام أوجب على المرأة المُعتدة من وفاة، أمرين :
الأول : البقاء مدة العدة في البيت، الذي كانت تسكنه مع زوجها الراحل، ما لم يكن هناك مانع، لقوله تعالى :{ لا تخرجوهن من بيوتهن و لا يخرجن إلا أن يـأتين بفاحشة مبينة }
و الثاني : الإحداد ويعني اجتناب كل ما يدعو الرجال إلى الرغبة في الاقتران بالأرملة المُعْتَدَّة من وفاة،من أزياء ومساحيق تجميل وعطور وحلي، وذلكــ إكراما لزوجها الراحل،وصيانة لنفسها من التعرض لمضايقات الرجال خلال هذه المدة،سدًّا للذريعة،و حفظا للأنساب .
ويؤكد الدكتور المعيار، أن دليل الإحداد – الدخول في فترة الحداد – وارد بالقرآن الكريم،في قوله تعالى :{ و الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر و عشرا } و معنى التربص في الآية بيَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :” لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تُحِد عليه أربعة أشهر وعشرا”،مضيفا أن إحْداد الأرملة المُعتدة من وفاة زوجها،بترك الزينة الداعية للرجال نحو النساء،يجوز للأرملة خلال الشهور الثلاثة للعدة، وعشرة الأيام التي تليها، بأن تلبس من الثياب ما تشاء،ما لم تكن ثياب زينة،كما في الحديث الشريف :” المتوفى عنها لا تلبس المُعصفر من الثياب … أي المزركش” .

ويشير الدكتور المعيار، إلى أن الفقهاء استثنوا من ذلك اللونين الأسود و الأبيض مع تردد بينهما، و كان الإمام مالك لا يرى في لباسها له بأسا، لكن بقيد أن لا يكون زينة أهل البلد، أو مما يزيد النساء الناصعات البياض من المُعتدات جاذبية وجمالا .
ويضيف الدكتور المعيار، أن الإمام مالك أجاز لباس الأبيض كما هو ظاهر المدونة،وقول ابن القاسم مما يفضي إلى أن تترك الارملة المُعتدة من وفاة لباس ما يزين به من المصبوغات بخلاف هذين اللونين، الأبيض أو الأسود.
ويخلص الدكتور المعيار، إلى أن اللباس الأبيض ترسخ واندمج مع الاختيارات المغربية في ارتباط وثيق بالثوابت الدينية،حين أصبح اللباس الأبيض شعارا للدولة أخذا بقوله الرسول صلى الله عليه وسلم : “البَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ البَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ .”وفي الصحيح عن أبي ذر :” رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض”، وهو من مذهب الإمام مالك ومن اختياره في لباسه،وكان يؤثره على غيره من الألوان وينصح طلبة العلم بالبياض، وكان يقول :” أحب للقاريء – يقصد طالب العلم- أن يكون أبيض الثياب .”

في سياق مماثل، يرى الباحث في التراث المغربي، الدكتور حسن المازوني،رئيس مجموعة البحث في اللغات الشرقية، بجامعة القاضي عياض، أن اختيار المرأة المغربية للباس اللون الأبيض، “لباس حق الله” كما يطلق عليه المغاربة، وذلكــ بعد وفاة الزوج،يعتبر من التقاليد والعادات الموروثة في المغرب،من الرافد الموريسكي الأندلسي.
ويضيف الدكتور المازوني، أن من عادة الأرامل الداخلات في العدة، من أهل الأندلس، لبس البياض في الحزن على أزواجهن، أو أحيانا على عموم موتاهم، قصد مخالفة الزي الأسود الذي كان شعار دولة العباسيين، حيث كان الأمويين بالأندلس يطلقون على العباسيين إسم المُسَوِّدَة، ومن ثم قال الشاعر أبو الحسن الحصري، فيما أورده إبن عبد ربه في “العقد الفريد” :
إذا كانَ البياضُ لباسَ حزن … بأندلسٍ فذاك من الصَّواب
ألم تَرنِي لبستُ بياضَ شَيبي …لأني قد حَزِنت على الشَّبَابِ

ويرى الدكتور المازوني، أن لبس البياض بالنسبة للأرامل يعود لهذه الفترة التاريخية،وأنه أحد الإنعكاسات الثقافية للصراع السِياسي والتاريخي حول الأحقية في الخلافة بين الشرق الإسلامي في فترات بغداد العباسيين وقاهرة الفاطميين والغرب الإسلامي زمن قرطبة الأمويين ومراكش الموحدين .

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.