ناجي العلي : كنوز كاريكاتورية من رصاص ودلالات
مـحـمـد الـقـنـور :
كان مصنوعا من الاخضر .. له رأس مشتعل ! رقيق .. من السهل كسره ، لكنه في الحقيقة قوي الى الدرجة التي يستطيع من خلالها إشعال غابة كاملة .. بل وإشعال العالم ! كان كائنا يرحمه الله يعشق طول النظر !ومدد الإشتعال … وأنا هنا لا أتحدث عن “عود ثقاب ” بل اتحدث عن ” الفنان ناجي العلي “..
فلم يكن ناجي العلي، يرحمه الله، بحاجة لكي يصرخ ” يا عمال العالم اتحدوا ” مثل كارل ماركس ، بل اكتفي بأن حمل قلما من رصاص ليظهر الحقيقة، بل كان نحيلا .. طويلا .. أبيضا مثل صفحات مشاريعه الكاريكاتورية .. ومدخنا شرها .
فقد كان العلي ولايزال أكبر من حمل قلم رصاص ليدون حجم مأساة فلسطين، ولوعة المنافي والمخيمات واللاجئين ، أكبر رسام كاريكاتير فلسطيني ارتبط اسمه بشخصية “حنظلة”. ولد في فلسطين ونشأ في لبنان، وبدأ رحلته مع الرسم داخل زنزانة المعتقل، فانتقد الاحتلال والقمع والاستبداد، وكانت رسومه سبب شهرته وكانت وراء موته، والحقيقة أنه لا توجد وثائق أو مصادر مؤكدة تحدد تاريخ ميلاد الطفل الذي كان ناجي سليم حسين العلي على وجه الدقة، لكن المرجح أنه ولد عام 1937 في قرية “الشجرة” بمنطقة الجليل لأسرة فلسطينية تعمل في الزراعة، وفي سنة النكبة 1948 نزح مع أسرته إلى جنوب لبنان، وعاش في مخيم عين الحلوة لللاجئين الفلسطينيين.
ولقد تلقى الفنان ناجي العلي تعليمه الابتدائي بمدارس لبنان، وانقطع عن التعليم النظامي بسبب الصعوبات التي واجهته، فانضم إلى مدرسة مهنية في طرابلس شمال لبنان لدراسة ميكانيكا السيارات، ثم التحق بالأكاديمية اللبنانية عام 1960 ودرس الرسم فيها لمدة عام، كما عمل ناجي العلي في الصحافة متنقلا بين لبنان والكويت ولندن، يرسم ساخرا من قائد أو زعيم عربي، أو متندرا على واقع مؤلم، أو مشرّحا سياسة إسرائيلية أفقدته الدار والوطن.
في عام 1963 بدأت رحلته مع الرسم داخل الزنزانة، فخلال اعتقاله من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ملأ جدران السجن بالرسوم، ثم كرر الأمر حين اعتقله الجيش اللبناني.
ومهما يكن ، فقد نقل ناجي العلي تجربته على جدران الزنزانة إلى جدران مخيم الحلوة، فشاهد الصحفي غسان كنفاني خلال زيارة للمخيم بعض رسومه، ونشر أحدها في العدد 88 من مجلة “الحرية” في 25 شتنبر 1961 لتبدأ رحلة غسان ورفيق دربه “حنظلة” على صفحات الجرائد.
وقد اختار لرسوماته شخصية “حنظلة” وهو رسم يظهر فيه طفل يعقد يديه خلف ظهره، وهو الطفل الذي سيصبح توقيعا يمهر به العلي رسومه، كما كانت لديه شخصيات أخرى تتكرر في الرسوم، بينها الشخصية الصريحة الواضحة الفلسطينية فاطمة، وزوجها الذي ينكسر أحيانابفعل تقلبات الوضع العربي التي لاتنتهي ، فقد رسم قرابة أربعين ألف كاريكاتير خلال مسيرته الفنية، وكانت ريشته مشرطا يحاول استئصال كل الأورام الخبيثة في الجسم العربي، وتميزت رسومه بالجرأة والصراحة، وملامسة هموم الناس وتوجهات الشارع العربي، واخترقت جدران الخوف التي أحاطت الأنظمة العربية بها شعوبَها، فرسم ساخرا من جميع الأنظمة، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، وكان يدرك خطورة ذلك.
ولقد هاجر ناجي العلي إلى الكويت، وعمل رساما للكاريكاتير بمجلة الطليعة الكويتية، ثم انتقل بعد خمسة أعوام إلى جريدة السياسة الكويتية وظل يرسم الكاريكاتير فيها حتى عام 1975 تاريخ التحاقه بجريدة السفير اللبنانية التي ظل بها حتى عام 1973.
وفي سنة 1979 انتخب رئيسا لرابطة الكاريكاتير العربي، ثم عاد إلى الكويت للعمل في جريدة القبس، وظل بها مدة عامين قبل أن يُرَحَّلَ وينتقل إلى بريطانيا عام 1985 ويعمل في جريدة القبس الدولية.
إلى ذلكــ ، كان الفنان ناجي العلي ، قد أصدر ثلاثة كتب ضمت مجموعة من رسومه المختارة.
الأوسمة والجوائز، كما حصل على العديد من الجوائز من بينها الجائزة الأولى في معرضي الكاريكاتير للفنانين العرب في دمشق عامي 1979 و1980، وصنفته صحيفة يابانية أحد أشهر عشرة رسامين للكاريكاتير في العالم.
وفي يوم ضبابي حزين توفي ناجي العلي يوم 29 غشت1987 في لندن متأثرا برصاصة أطلقت عليه، من مجهول بكاتم صوت طالما ندد بخطورته في رسوماته، في 22 يوليوز من نفس السنة، في عملية اغتيال فظيعة ولا إنسانية لم تتحدد بشكل قاطع الجهة التي قامت بها، ودفن في لندن، خلافا لرغبته بالدفن في مخيم عين الحلوة ، حيث رأى النور، إلى جانب قبر والده ووالدته .